الأحد، 31 مايو 2009

معدن الحديد مُنَزّلٌ من الفضاء الخارجي

آيات الإعجاز:

قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].

فهم المفسرين:

نقل عن علماء التفسير في تفسير هذه الآية قولهم بأن الحديد منزل من السماء، واستدلوا كذلك بالحديث المروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنزل الله أربع بركات من السماء: الحديد، والنار، والماء، والملح". أما منافع الحديد فقد أفاض المفسرون في الحديث عنها.

حقائق علمية:

- كشف علماء الجيولوجيا أن 35% من مكونات الأرض من الحديد.
- الحديد أكثر المعادن ثباتاً وتصل كثافته إلى 7874 كم3، وبذلك يحفظ توازن الأرض.
- يتميز الحديد بأعلى الخصائص المغناطيسية وذلك للمحافظة على جاذبية الأرض.
- أصل الحديد من مخلفات الشهب والنيازك التي تتساقط من الفضاء الخارجي على كوكب الأرض، حيث تتساقط آلاف النيازك التي قد يزن البعض منها عشرات الأطنان وقد تم اكتشاف بعضها في أستراليا وأميركا.
- لا تتكوّن ذرّة واحدة من معدن الحديد إلا بطاقة هائلة تفوق مجموع الطاقة الشمسية.

التفسير العلمي:

قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].

إن القرآن يقدّر في هذه الآية الكريمة أن معدن الحديد قد تم إنزاله من السماء ولم يكن موجوداً على كوكب الأرض.

وقد ذكر هذه الحقيقة علماء التفسير، كما أفاضوا في الكلام عن بأس الحديد ومنافعه. أما العلم فإنه لم يتوصل إليها إلا في أوائل الستينات حيث وجد علماء الفضاء أن أصل معدن الحديد ليس من كوكب الأرض بل من الفضاء الخارجي، وأنه من مُخلّفات الشهب والنيازك، إذ يحول الغلاف الجوي بعضاً منها إلى رماد عندما تدخل نطاق الأرض، ويسقط البعض الآخر على أشكال وأحجام مختلفة.

كشف علماء الفضاء مؤخراً أن عنصر الحديد لا يمكن له أن يتكون داخل المجموعة الشمسية، فالشمس نجم ذو حرارة وطاقة غير كافية لدمج عنصر الحديد، وهذا ما دفع بالعلماء إلى القول بأن معدن الحديد قد تم دمجه خارج مجموعتنا الشمسية، ثم نزل إلى الأرض عن طريق النيازك والشهب.

ويعتقد علماء الفلك حالياً أن النيازك والشهب ما هي إلا مقذوفات فلكية من ذرات مختلفة الأحجام، وتتألف من معدن الحديد وغيره، ولذلك كان معدن الحديد من أول المعادن التي عُرِفتْ للإنسانية على وجه الأرض، لأنه يتساقط بصورة نقية من السماء على شكل نيازك.

قال "أرثر بيرز" في كتابه "الأرض": "قُسّمت النيازك إلى ثلاثة أقسام عامة:

1- النيازك الحديدية: ومتكونة من أكثر من 98% من الحديد والنيكل.
2- النيازك الحديدية الحجرية: نصفها مكوّن تقريباً من الحديد والنيكل والنصف الآخر من نوع الصخر المعروف باسم الـ "أوليفين".
3- النيازك الحجرية: التي تشمل على حجارة، وتقسم حجارتها إلى عدة أنواع.

يتساقط في كل عام آلاف النيازك والشهب على كوكب الأرض، التي قد يزن بعضها أحياناً عشرات الأطنان. ففي سنة 1902 عثر على نيزك في الولايات المتحدة بلغ (62 طناً) مكوّن من سبائك الحديد والنيكل. أما في ولاية "أريزونا" فقد أحدث شهاب فوهةً ضخمةً عمقها (600 قدم) وقطرها (4000 قدم) وقد بلغت كميات الحديد المستخرجة من شظاياه الممزوجة بالنيكل عشرات الأطنان.

ومن هذا الشرح العلمي تتبين لنا دقة الوصف القرآني "أنزلنا الحديد". ولكن ما هو البأس الشديد وما هي المنافع التي أشار إليها القرآن بقوله: {فيه بأس شديد و منافع للناس

لقد وجد علماء الكيمياء أن معدن الحديد هو أكثر المعادن ثباتاً ولم يتوصل العلم إلى الآن من اكتشاف معدن له خواص الحديد في بأسه وقوته ومرونته وشدة تحمله للضغط. وهو أيضاً أكثر المعادن كثافةً حيث تصل كثافته إلى 7874 كم3، وهذا يفيد الأرض في حفظ توازنها. كما يعتبر معدن الحديد الذي يشكل 35% من مكونات الأرض، أكثر العناصر مغناطيسية وذلك لحفظ جاذبيتها.

في واقع الأمر لم تعرف البشرية أهمية الحديد الصناعية إلا في القرن الثامن عشر أي بعد نزول القرآن باثني عشر قرناً، حيث اتجه العالم فجأة إلى صناعة الحديد واكتشفوا أيسر الوسائل لاستخراجه. وقد دخل الحديد الآن في كل المجالات الصناعية كأساس لها، بل أصبح حجر الزاوية في جميع استعمالات البشر، فهو يستخدم كأنسب معدن في صناعة الأسلحة وأساساً لجميع الصناعات الثقيلة والخفيفة.

ولا بد أن نذكر أيضاً أن الحديد عنصر أساسي في كثير من الكائنات الحية، كما في بناء النباتات التي تمتص مركباته من التربة، والهيموغلوبين في خلايا الدم عند الإنسان والحيوان.

ونختم كلامنا عن الحديد بالإشارة إلى توافق عددي عجيب ذكره الدكتور زغلول النجار وهو من كبار علماء الجيولوجيا في العالم حيث نبهّه أحد أساتذة الكيمياء في أستراليا إلى أن رقم سورة الحديد يوافق الرقم الذرّي لمعدن الحديد وهو (56) بينما يوافق رقم آية الحديد العدد الذرّي لمعدن الحديد وهو (26)، ويأتي شرح ذلك مفصلاً في قسم الموافقات العددية. فسبحان من علّم محمداً صلى الله عليه وسلم كل هذه الحقائق العلمية. إنه رب العالمين خالق الأكوان القائل في كتابه العزيز {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.

مراجع علمية:

ذكرت الموسوعة البريطانية:

"... على أية حال، إن أصل تكوّن الأرض عن طريق النمو التراكمي للكويكبات هي فرضية موثقة، والنيازك هي الأمثلة المحتملة للكويكبات التي عاشت في مرحلة ما قبل التكوكب من النظام الشمسي. هو هكذا يظهر أن الأرض قد تشكلت بتراكم الأجسام الصلبة مع التركيب المتوسط للنيازك الحجرية. على أية حال، عملية النمو التراكمي تقود إلى التفرقة الهائلة من العناصر. إن الكثير من الحديد قد أُرجع إلى الحالة المعدنية وغاص نحو المركز ليكوّن اللب، حاملاً معه القسم الأكبر من عناصر (السيدروفيل)*. أما عناصر (الليثوفيل)*، تلك ذات الألفة الأكثر للأكسجين من الحديد، فهي تتحد على شكل أكاسيد، في الغالب السيليكات، وتؤمن المادة المكونة للدٍّثار –(غلاف اللب الأرضي)- والقشرة. كما تميل عناصر (التشالكوفيل)* إلى تكوين الكبريتيدات، على أية حال، بعض الكبريتيدات تستقر على درجات حرارة عالية داخل الأرض، إذ أن مصير عناصر (التشالكوفيل)* خلال التاريخ المبكر للأرض غير مؤكدة نوعاً ما.

يمكن لهذا التمايز الجيوكيميائي الابتدائي للأرض أن يُترجم في تعابير النظام: حديد – مغنيزيوم – سيليكون – أكسجين – كبريت، لأن هذه العناصر الخمسة تكون حوالي 95 بالمائة من الأرض. لم تكن هناك كمية كافية من الأكسجين لتتحد مع أكثر العناصر معدنية الحديد، والمغنيزيوم والسيليكون. وبما أن المغنيزيوم والسيليكون لديهم ائتلاف مع الأكسجين أكثر من الحديد، فإنها تتّحد مع الأكسجين بالكامل. يتّحد الأكسجين الباقي مع قسم من الحديد مخلفاً البقية على شكل حديد معدني وكبريتيد الحديد. كما أشرنا سابقاً، يغوص المعدن في العمق ليشكّل اللب، صاحباً معه القسم الأكبر من عناصر (السيدروفيل)*..."

*- التشالكوفيل: أليف الكبريت.
- السيدروفيل: أليف النيزك الحديدي.
- الليثوفيـل: أليف الصخر.

"...إن احتراقاً إضافياً للمواد يؤدي إلى مجموعة من التفاعلات النووية المعقدة عن طريق العناصر التي نتجت من احتراق الكربون والأكسجين و التي تُحوّل بشكل تدريجي إلى عناصر ذات طاقة ترابطية كسرية قصوى، على سبيل المثال، الكروم والمنغنيز والحديد والكوبالت والنيكل. أعطت هذه التفاعلات جماعياً اسم احتراق السيليكون لأن قسماً مهماً من العملية هو تحطيم لنوى السيليكون إلى نوى الهيليوم، والتي تضاف تباعاً إلى نوى سيليكون أخرى لإنتاج العناصر المذكورة سابقاً.

أخيراً على درجات الحرارة تقريباً 4 × 910 ك، هناك إمكانية لبلوغ تقريبي إلى الموازنة الإحصائية النووية. في هذه المرحلة، بالرغم من أن التفاعلات النووية تتابع عملها، فإن كل تفاعل نووي ومعكوسه قد حدث بشكل سريع على حدٍّ سواء. وليس هناك تغير إجمالي آخر للتركيبة الكيميائية. وهكذا، فإن الإنتاج التدريجي للعناصر الثقيلة من خلال تفاعلات الاندماج النووي تُوازن بالتفكك وتتوقف عملية التعزيز فعلياً حينما تسود المادة على شكل الحديد والعناصر المجاورة له في الجدول الدوري. حقيقةً، إذا حدث تسخين آخر، فإن تحويلاًُ للنوى الثقيلة إلى نوى أخف سيتبع ذلك وبنفس الطريقة تقريباً التي يحصل فيها تأين (تشرّد) للذرات عندما تسخّن وتحمّى..."

"... إن الكثافة في لب الشمس تعادل تقريباً 100 ضعف كثافة الماء (تقريباً ستة أضعاف الكثافة في مركز الأرض)، لكن درجة الحرارة فهي على الأقل 15.000.000 كلفن، بحيث أن الضغط المركزي يساوي على الأقل 10.000 ضعف أكثر من ذلك في مركز الأرض والذي يعادل 3500 كيلوبار.

... تنخفض درجة حرارة الشمس من 15.000.000 كلفن في المركز إلى 5.800 كلفن على سطحها النيِّر، ..."

" يحتمل للنجوم ذات الكتلة المنخفضة أن تكون درجة الحرارة القصوى متدنية جداً لأية تفاعلات نووية مهمة يمكن لها أن تحدث، ولكن للنجوم الهائلة مثل الشمس وأعظم منها، فإنه يمكن أن تحدث أغلب تسلسلات تفاعلات الاندماج النووي الموصوفة سابقاً. علاوة على ذلك، فإن ميزان الوقت للتطور النجمي يُشتق من نظريات التطور النجمي التي تبرهن أن النجوم الأكثر كتلة جوهرياً من الشمس يمكن أن تكون أكملت تاريخ حياتها النشيط في وقت قصير مقارنةً بعمر اشتقاق الكون من نظرية الانفجار العظيم الكونية.

هذه النتيجة تعني أن النجوم الأكثر كتلةً من الشمس والتي تكونت باكراً جداً في تاريخ حياة المجرة، من المحتمل أنها أنتجت بعض العناصر الثقيلة التي تشاهد اليوم، وأما النجوم الأقل كتلة من الشمس فهي لم يكن لها أن تلعب أي دور في هذا الإنتاج ".

"إن الحديد، الذي هو أساس تكوين لب الأرض، هو أكثر العناصر انتشاراً في الأرض بشكل كلي (35 بالمائة) ...".

وجه الإعجاز:

وجه الإعجاز في الآية القرآنية الكريمة هو دلالة لفظ "أنزلنا الحديد" الذي يفيد هبوط الحديد من السماء، وهذا ما كشفت عنه الدراسات الفضائية والجيولوجية في النصف الثاني من القرن العشرين.

المشارق والمغارب

ظاهرة يومية عرفت منذ تكونت الشمس والأرض وهي ظاهرة الشروق والغروب .. جاءت في كتاب الله بصور وصيغ ثلاث قال تعالى : ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ) وقال تعالى : ( فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ) وقال تعالى : ( فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) ففي الاية الأولى جاء ذكر المشرق والمغرب في صيغة المفرد وفي الثانية في صيغة المثنى وفي الثالثة في صيغة الجمع فما هو السبب في إختلاف الصيغ ؟

وأين كل هذه المشارق والمغارب ؟ لا يبدو وجود صعوبة في فهم صيغة المفرد فأينما كنا وحيثما وجدنا رأينا للشمس مشرقا ومغربا . أما المشرقان والمغربان فقد فسرهما المفسرون بمشرقى ومغربى الشمس في الشتاء والصيف . فالأرض كما نعرف تتم دورتها حول الشمس في 365 يوما وربع يوم كذلك نعلم أن ميل محور دورانها عن المحور الرأسي يسبب إختلاف الفصول ومن ثم إختلاف مكان ووقت الشروق والغروب على الأرض على مر السنة . فالواقع أن المشرق والمغرب على الأرض - أي مكان الشروق والغروب - يتغيران كل يوم تغيرا طفيفا , أي أن الشمس تشرق وتغرب كل يوم من مكان مختلف على مر السنة وهذا بدوره يعني وجود مشارق ومغارب بعدد أيام السنة وليس مشرقين ومغربين إثنين فقط , وإن بدأ الاختلاف بين مشرقى الشمس ومغربيها أكثر وضوحا في الشتاء والصيف . فقد يكونا إذن مشرقى الشمس ومغربيها في الشتاء والصيف هما المقصودان في الآية الكريمة : ( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) كذلك قد تكون هذه المشارق والمغارب المتعددة التي نراها على مر السنة هي المقصودة في الآية الثالثة : ( بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ) وقد يكون المقصود بها أيضا مشارق الأرض ومغاربها في بقاعها المختلفة فشروق الشمس وغروبها عملية مستمرة ففي كل لحظة تشرق الشمس على بقعة ما وتغرب عن بقعة أخرى . وقد يكون المقصود بها مشارق الأرض ومغاربها على كواكب المجموعة الشمسية المختلفة , فكل كوكب - مثله في ذلك مثل الأرض - تشرق عليه الشمس وتغرب كانت هذه تفسيرات مختلفة لمعنى المشارق والمغارب والمشرقين والمغربين . بقى لنا أن نعرف السبب في ذكر المشرق والمغرب في صيغة المختلفة , والسبب يبدو أكثر وضوحا إذا تلونا الآيات مع سوابقها وبتدبر وإمعان فالآية الأولى تبدأ ( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ) وكما نلاحظ أن ذكر رب المشرق والمغرب هنا كان مقرونا بإسم الجلالة فالله سبحانه وتعالى يأمر رسوله بأن يذكر إسم ربه وأن يتبتل إليه , والتبتل هو الاتجاه الكلي لله وحده بالعبادة والإخلاص فيها بالخشوع والذكر , فليس للرحمن من شريكة ولا ولد ويأتي ذلك مؤكدا في المقطع الثاني من الآية ( لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ) ففي هذا المقام الذي يؤكد الله فيه وحدانيته لعبده ويدعوه لعبادته وحده عبادة خالصة مخلصة نجد أن صيغة المفرد هنا هي أنسب الصيغ وذكر المشرق والمغرب في صيغة المفرد يكمل جو الوحدانية الذي نعيش فيه مع هذه الآية الكريمة .. أما في الآية الثانية فالوضع يختلف ولنبدأ ببعض الآيات التي تسبق الآية الثانية قال تعالى : ( خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) الحديث في هذه الايات كلها في صيغة المثنى يذكرنا فيها الرحمن بأنه هوالذي خلق الإنس والجان وأنه هو رب المشرقين والمغربين وأنه هو الذي مرج البحرين ليلتقيا ولكن بدون أن يبغي أحدهما على الآخر ومهما يخرج اللؤلؤ والمرجان فصيغة المثنى هي الغالبة في هذه الآيات وكذلك فقد يبدو من الأنسب أن يذكرا المشرقين والمغربين أيضا في صيغة المثنى . وبالمثل في الآية الثالثة فإذا كتبناها مع سوابقها ولواحقها من الآيات الكريمة عرفنا سبب ذكر المشرق والمغرب في صيغة الجمع قال تعالى : ( فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ * فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) فالحديث هنا كما يلاحظ القارئ منصب على الذين كفروا ولذلك ذكرت المشارق والمغارب على نفس النمط في صيغة الجمع أيضا حتى يتأتى التوافق في الصيغ الذي وجدناه في الآيتين السابقتين . ومن ناحية آخرى يدعونا العلي القدير للتعمق والتفكير في معانى الصيغ المختلفة فقد يكون المقصود بالمشارق والمغارب هنا على كفار جدد في أماكن جديدة وكأن العلي القدير يخاطبهم ويقول ( فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ) هذه التي عرفتموها ورأيتموها في كل مكان وزمان على الأرض إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منكم وما نحن بمغلوبين ..

لا شك في أن التوافق الذي رأيناه في صيغ الآيات الثلاث السابقة هو مثل حي من بلاغة الأسلوب القرآني وجمال تعبيره ودقة معانية وإلى جانب ذلك نجد أن ذكر المشرق والمغرب مرة في صيغة المفرد ومرة في صيغة المثنى ومرة في صيغة الجمع يعطي باعـثا للبحث والتفكير وحافزا للتعمق والتأمل . فالمعاني والكلمات والتعبيرات بل والصيغ لا تأتي منقادة بهذه السهولة واليسر إلا للعزيز الحكيم وإذا تعمقنا مرة أخرى في معنى رب المشارق والمغارب لوجدنا في هذا التعبير أيضا هذه الزاوية الجديدة التي لا عهد للانسان بها فشروق الشمس وغروبها في كل لحظة على بلد جديد وعلى بقعة مختلفة من بقاع الأرض في أبعد ما يكون عن التصور الانساني
المصدر " آيات قرآنية في مشكاة العلم " د. يحيى المحجري


الجمعة، 29 مايو 2009

توسع الكون

آيات الإعجاز:

قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47].

التفسير اللغوي:

قال ابن منظور في لسان العرب:

أيد: الأيْدُ والآدُ جميعاً: القوة.

ومنه قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ}.

أي ذا القوة.

وآدَ يئيد أيداً. إذا اشتدَّ وقوِي.

والتأييد مصدر أيّدته أي قوّيتُه.

قال الله تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي قوّيتُكَ.

قال أبو الهيثم: آد يئيد إذا قوِيَ، وأيَدَ يُؤيدُ إياداً إذا صار ذا أيدٍ، ورجل أيِّدٌ بالتشديد أي قويٌّ.

موسعون: السَّعَة نقيض الضيق.

وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أراد جعلنا بينها وبين الأرض سعَة.

فهم المفسرين:


إنه من دواعي الفخر أن نعلم أن علماء التفسير والعقيدة الإسلامية قد أدركوا ضرورة وجود إمكانية لتوسع الكون، حيث نجد في كتاب تهافت التهافت لابن رشد الحفيد مناظرة بين طروحات أبي حامد الغزالي الذي يتكلم بلسان علماء العقيدة المتكلمين، وردود أبي الوليد ابن رشد الذي يتكلم بلسان الفلاسفة.

لقد طرح أبو حامد الغزالي السؤال: "هل كان الله قادراً على أن يخلق العالم أكبر مما هو عليه؟ فإن أجيب بالنفي فهو تعجيز لله وإن أجيب بالإثبات ففيه اعتراف بوجود خلاء خارج العالم كان يمكن أن تقع فيه الزيادة لو أراد الله أن يزيد في حجم العالم عما هو عليه"، أما ابن رشد الذي يلتزم موقف الفلاسفة اليونانيين، فإنه يرى أن "زيادة حجم العالم أو نقصه عما هو عليه مستحيل لأن هذا التجويز إذا قام فلا مبرر لإيقافه عند حد، وإذن فيلزم تجويز زيادات لا نهاية لها".
إنه من الواضح في هذه المناظرة أنه رغم عدم توفر المعلومات التفصيلية عن فيزياء الكون والقوى العاملة فيه إلا أن المتكلمين المسلمين حين اشتدوا إلى أصول العقيدة الإسلامية المستنبطة بشكل صحيح من القرآن فإنهم توصّلوا إلى فهم مسائل عويصة منها مسألة توسع الكون والتي هي قضية مستحدثة في الاستنباط العلمي في القرن العشرين الميلادي، بينما هذه المناظرة تمت في القرن السادس الميلادي.

وقال ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}: أي: "قد وسّعنا أرجاءها، فرفعناها بغير عمد حتى استقلّت كما هي".


حقائق علمية:
· في عام 1929 شاهد عالم الفلك الأمريكي "إدوين هابل" بواسطة التلسكوب أن المجرات تتباعد عن بعضها البعض بسرعات هائلة.

· إن حركة ابتعاد المجرات ناتجة عن توسع الفضاء (الكون) وامتداده.

التفسير العلمي:

يقول الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47].

تشير الآية القرآنية الكريمة إلى أن الكون المعبّر عنه بلفظ السماء هو في حالة توسع دائم، يدل على ذلك لفظ "موسعون" فهو اسم فاعل بصيغة الجمع لفعل أوسع وهو يفيد الاستمرار، لكن القرآن لم يبين تفاصيل الاتساع وإنما أورده مجملاً، وإذا عدنا إلى علماء التفسير الأقدمين نجدهم قد تعرضوا لهذه القضية، فالإمام أبو حامد الغزالي طرح هذه القضية في كتابه تهافت الفلاسفة حيث قال: "هل كان الله قادراً على أن يخلق العالم أكبر مما هو عليه؟ فإن أجيب بالنفي فهو تعجيز لله، وإن أجيب بالإثبات ففيه اعتراف بوجود خلاء خارج العالم كان يمكن أن تقع فيه الزيادة لو أراد الله أن يزيد في حجم العالم عما هو عليه".

ولكن ماذا يقول علم الفلك الحديث في هذا الموضوع؟

في عام 1929 أكد العالمان الفلكيان "همسن" و "هابل" نظرية توسع الكون بالمشاهدة، حيث وضع هابل القاعدة المعروفة باسمه وهي قانون تزايد بُعد المجرات بالنسبة لمجراتنا، وبالنسبة لبعضها البعض، وبفضل هذا القانون أمكن حساب عمر الكون التقريبي، وقد قام "هابل" باستدعاء "آينشتين" من ألمانيا إلى أميركا حتى يُرِيَه تباعد المجرات والكواكب بواسطة التلسكوب.

وتفسير ظاهرة ابتعاد المجرات يتمثل في أنه إذا كان هناك مصدر ضوئي من الفضاء الخارجي يبتعد عنا فإن تردد الأمواج الضوئية ينخفض وبالتالي ينزاح نحو اللون الأحمر. أما إذا كان المصدر الضوئي يقترب منا فإن الانزياح الذي يسجله المشاهد سيكون نحو اللون الأزرق. ويكون الانزياح الطيفي ملموساً عندما تكون سرعات المصدر الضوئي معتبرة بالنسبة لسرعة الضوء، بينما لا يمكن مشاهدته بالنسبة للمصادر الضوئية العادية ذات السرعات الضئيلة مقارنة مع سرعة الضوء، وهذا ما أكده العالم الفيزيائي دوبلر (Doppler).

إن حركة ابتعاد المجرات ناتجة عن توسع الفضاء نفسه حيث تنساق معه المجرات كلها.

وبصورة عامة فإن المجرات وتجمعات المجرات وأكداس المجرات هي أشبه ما تكون بكتل غازية هائلة من الدخان ما تزال تتوسع وينتشر ويتوسع معها الكون منذ حصل الانفجار العظيم في الكتلة الغازية الأولى، وقد أشارت الموسوعة الفضائية إلى هذه الظاهرة.

وختاماً نقول: إن اتفاق الفلكيين في النصف الثاني من القرن العشرين على حقيقة توسع الكون أسقطت فرضية أزلية الكون وقدمه، وثبت علمياً أن للكون بداية ونهاية، فسبحان الذي صدقنا وعده عندما قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].

وجه الإعجاز:

وجه الإعجاز في الآية القرآنية الكريمة هو دلالة لفظ "موسعون" الذي يفيد الماضي والحال والاستقبال، على أن الكون في حالة توسُّع مستمر، وهذا ما كشفت عنه المشاهدات الفلكية للعالم "هابل" عام 1929م.

الخميس، 28 مايو 2009

الإنفجار العظيم

قال الله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30]

التفسير اللغوي:
قال ابن منظور في لسان العرب:
رتْقاً: الرَّتْقُ ضدّ الفتْقُ.
وقال ابن سيده: الرَّتْقُ إلحام الفتْقِ وإصلاحه، رتَقَه يرتُقُه ويرتِقُه رتقاً فارتتق أي التَأَم.
ففتقناهما: الفتقُ خلاف الرتق، فتقه يفتقُّه فتقاً: شقه.
الفتق: انفلاق الصبح.

فهم المفسرين:

قال الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}.

اختلف المفسرون في المراد بالرتق والفتق على أقوال:

أحدها: وهو قول الحسن وقتادة وسعيد بن جبير ورواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم أن المعنى كانتا شيئاً واحداً ملتصقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي، وأقرّ الأرض، وهذا القول يوجب أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء لأنه تعالى لما فصل بينهما ترك الأرض حيث هي وأصعد الأجزاء السماوية، قال كعب: "خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحاً توسطتهما ففتقهما بها".

وثانيها: وهو قول أبي صالح ومجاهد أن المعنى: كانت السموات مرتفعة فجُعلت سبع سموات وكذلك الأرضون.

وثالثها: وهو قول ابن عباس والحسن وأكثر المفسرين أن السموات والأرض كانتا رتقاً بالاستواء والصلابة، ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر، ونظيرهقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}. ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم، ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا.

ورابعها: قول أبي مسلم الأصفهاني: يجوز أن يراد بالفتق: الإيجاد والإظهار كقوله: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وكقوله: {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ}، فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق، وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق.
أقول )أي الرازي): وتحقيقه أن العدم نفي محض، فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة، بل كأنه أمر واحد متصل متشابه فإذا وجدت الحقائق، فعند الوجود والتكون يتميز بعضها عن بعض، وينفصل بعضها عن بعض فبهذا الطريق حَسُنَ جعل الرتق مجازاً عن العدم والفتق عن الوجود".
قال الطبري في تفسير الآية أيضاً:
"وقوله: "ففتقناهما" يقول: فصدعناهما وفرجناهما ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله السموات والأرض بالرتق، وكيف كان الرتق وبأي معنى فتق؟
فقال بعضهم: عنى بذلك أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين ففصل الله بينهما بالهواء وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أن السموات كانت مرتتقة طبقة ففتقها الله فجعلها سبع سموات وكذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة ففتقها فجعلها سبع أرضين. وهو مروي عن مجاهد وأبي صالح والسدّي.
وقال آخرون: بل عُني بذلك أن السموات كانتا رتقاً لا تمطر، والأرض كذلك رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، وهو مروي عن عكرمة وعطية وابن زيد.
قال أبو جعفر "الطبري": وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ألم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً من المطر والنبات ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله: "وجعلنا من الماء كل شيء حي" على ذلك".
ورجّح هذا القول القرطبي في تفسيره أيضاً.
مقدمة تاريخية:

يمكن العودة بأولى تصورات الإنسان لنشأة الكون إلى العصر الحجري أي قبل مئات الآلاف من السنين، حيث سيطرت الخرافة على خيال الإنسان وتطور العقل البشري عند المصريين القدامى والبابليين الذي تجلى عندهم الربط بين أزلية الكون والآلهة المتعددة المسيطرة عليه، وقد حاول فلاسفة الإغريق والرومان وضع نظريات للظواهر الكونية بينما ساد علم التنجيم الحضارتين الهندية والصينية.

إن الخاصية العامة التي طبعت تصورات الكون عند الحضارات القديمة هي ارتباطها بعالم الآلهة واعتقادها الراسخ بوجود اختلاف أساسي بين الأرض والسماء، مما لم يسمح بوضع نظريات عن الكون وكيفية نشأته، لكن بعد التطورات الهامة التي شهدتها الإنسانية في بداية القرن العشرين في المجال الفلكي (Cosmology) على الصعيد النظري، مع نظرية النسبية العامة التي وضعت الإطار الرياضي الصحيح لدراسة الكون، وكذلك على الصعيد الرصدي مع الاكتشافات الرائعة لأسرار الفضاء، كان لا بد من وضع نظرية عامة تقوم بإدماج تلك المعطيات مقدمة تصوراً موحداً ومتجانساً قصد تفسير أهم الظواهر الكونية ومنها نشأة الكون.

لقد اقترح القس البلجيكي "جورج لو ميتر" (George Le Maitre) سنة 1927 صورة جديدة لنشأة الكون وتطوره وقد وافقه على ذلك جورج غاموف (George Gamov) الفيزيائي الأمريكي (من أصل روسي) الذي قدّم أفكاراً طورت نظرية (لو ميتر).


حقائق علمية:

- في عام 1927 عرض العالم البلجيكي: "جورج لو ميتر" (George Le Maitre) نظرية الانفجار العظيم والتي تقول بأن الكون كان في بدء نشأته كتلة غازية عظيمة الكثافة واللمعان والحرارة، ثم بتأثير الضغط الهائل المتآتي من شدة حرارتها حدث انفجار عظيم فتق الكتلة الغازية وقذف بأجزائها في كل اتجاه، فتكونت مع مرور الوقت الكواكب والنجوم والمجرّات.

- في عام 1964 اكتشف العالمان "بانزياس" Penziaz و"ويلسون" Wilson موجات راديو منبعثة من جميع أرجاء الكون لها نفس الميزات الفيزيائية في أي مكان سجلت فيه، سُمّيت بالنور المتحجّر وهو النور الآتي من الأزمنة السحيقة ومن بقايا الانفجار العظيم الذي حصل في الثواني التي تلت نشأة الكون.

- في سنة 1989 أرسلت وكالة الفضاء الأمريكية "نازا" (NASA) قمرها الاصطناعي Cobe explorer والذي أرسل بعد ثلاث سنوات معلومات دقيقة تؤكد نظرية الانفجار العظيم وما التقطه كل من بنزياس وويلسن.

- وفي سنة 1986 أرسلت المحطات الفضائية السوفياتية معلومات تؤيد نظرية الانفجار العظيم.

التفسير العلمي:

إن مسألة نشأة الكون من القضايا التي تكلّم فيها الفلاسفة والعلماء ولكنها كانت خبط عشواء، فلقد تعددت النظريات والتصورات إلى أن تحدث عالم الفلك البلجيكي "جورج لو ميتر" (George Le Maitre) سنة 1927 عن أن الكون كان في بدء نشأته كتلة غازية عظيمة الكثافة واللمعان والحرارة أسماها البيضة الكونية.

ثم حصل في هذه الكتلة، بتأثير الضغط الهائل المنبثق من شدة حرارتها، انفجار عظيم فتتها وقذفها مع أجزائها في كل اتجاه فتكونت مع مرور الوقت الكواكب والنجوم والمجرات.

ولقد سمى بعض العلماء هذه النظرية بالانفجار العظيم “Big Bang” وبحسب علماء الفيزياء الفلكية اليوم فإن الكون بعد جزء من المليارات المليارات من الثانية (10 -43)، ومنذ حوالي خمسة عشر مليار سنة تقريباً كان كتلة هائلة شديدة الحرارة بحجم كرة لا يبلغ قطرها جزءاً من الألف من السنتيمتر.

وفي عام 1840 أيد عالم الفلك الأمريكي (من أصل روسي) جورج غاموف (George Gamov) نظرية الانفجار العظيم: “Big Bang”، مما مهد الطريق لكل من العالمين "بانزياس" Penziaz و"ويلسون" Wilson سنة 1964 اللذين التقطا موجات راديو منبعثة من جميع أرجاء الكون لها نفس الخصائص الفيزيائية في أي مكان سجلت فيه، لا تتغير مع الزمن أو الاتجاه، فسميت "النور المتحجّر" أي النور الآتي من الأزمنة السحيقة وهو من بقايا الانفجار العظيم الذي حصل في الثواني التي تلت نشأة الكون.

وفي سنة 1989 أرسلت وكالة الفضاء الأمريكية “NASA” قمرها الاصطناعي “Cobe explorer” والذي قام بعد ثلاث سنوات بإرسال معلومات دقيقة إلى الأرض تؤكد نظرية الانفجار العظيم، وسمّي هذا الاكتشاف باكتشاف القرن العشرين. هذه الحقائق العلمية ذكرها كتاب المسلمين "القرآن" منذ أربعة عشر قرناً، حيث تقول الآية الثلاثون من سورة الأنبياء: {أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}.

ومعنى الآية أن الأرض والسموات بما تحويه من مجرات وكواكب ونجوم والتي تشكل بجموعها الكون الذي نعيش فيه كانت في الأصل عبارة عن كتلة واحدة ملتصقة وقوله تعالى {رتقاً} أي ملتصقتين، إذ الرتق هو الالتصاق ثم حدث لهذه الكتلة الواحدة "فتق" أي انفصال وانفجار تكونت بعده المجرات والكواكب والنجوم، وهذا ما كشف عنه علماء الفلك في نهاية القرن العشرين.

أو ليس هذا التوافق مدهشاً للعقول، يدعوها للبحث عن خالق هذا الكون، مسبب الأسباب؟
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.

مراجع علمية:
قد ذكرت الموسوعة البريطانية انه في عام 1963، كلفت مختبرات “Bell” العالِمان أرنو بنزياس و روبرت ويلسون باتباع أثر موجات الراديو التي تشوش على تقدم اتصالات الأقمار الاصطناعية. اكتشف العالِمان "بنزياس" و "ويلسون" أنه كيفما كان اتجاه محطة البث فإنه يلتقط دائماً موجات ذات طاقة مشوشة خفيفة، حتى ولو كانت السماء صافية، أسهل حل كان إعادة النظر في تصميم اللاقطات لتصفي الموجات من التشويش، ولكنهما ظلوا يتتبعون أثر هذه الموجات المشوشة، فكان اكتشافهم المهم للموجات الفضائية التي أثبتت نظرية الانفجار العظيم.
بنزياس و ويلسون ربحوا جائزة نوبل في الفيزياء على هذا الاكتشاف سنة 1978.

وجه الإعجاز:
وجه الإعجاز في الآية القرآنية هو تقريرها بأن نشأة الكون بدأت إثر الانفجار العظيم بعد أن كان كتلة واحدة متصلة، وهذا ما أوضحته وأكدته دراسات الفلكيين وصور الأقمار الاصطناعية في نهاية القرن العشرين.

لا يشربن أحدكم قائما

بسم الله الرحمن الرحيم

(لا يشربن أحدكم قائما

عن أنس وقتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم " أنه نهى أن يشرب الرجل قائماً " ،

قال قتادة : فقلنا فالأكل ؟ فقال : ذاك أشر و أخبث " رواه مسلم و الترمذي

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يشربن أحدكم قائماً فمن نسي فليستقي " رواه مسلم .

الإعجاز الطبي ...

يقول الدكتور عبد الرزاق الكيلاني أن الشرب و تناول الطعام جالساً أصح و أسلم و أهنأ و أمرأ حيث يجري ما يتناول الآكل والشارب على جدران المعدة بتؤدة و لطف . أما الشرب واقفاً فيؤدي إلى تساقط السائل بعنف إلى قاع المعدة و
يصدمها صدماً ،

و إن تكرار هذه العملية يؤدي مع طول الزمن إلى استرخاء المعدة و هبوطها و ما يلي ذلك من عسر هضم . و إنما شرب النبي واقفاً لسبب اضطراري منعه من الجلوس مثل الزحام المعهود في المشاعر المقدسة ، و ليس على سبيل العادة و الدوام .

كما أن الأكل ماشياً ليس من الصحة في شيء و ما عرف عند العرب و المسلمين .

و يرى الدكتور إبراهيم الراوي أن الإنسان في حالة الوقوف يكون متوتراً و يكون جهاز التوازن في مراكزه العصبية في حالة فعالة شديدة حتى يتمكن من السيطرة على جميع عضلات الجسم لتقوم بعملية التوازن و الوقوف منتصباً. و هي عملية دقيقة يشترك فيها الجهاز العصبي العضلي في آن واحد مما يجعل الإنسان غير قادر للحصول على الطمأنينة العضوية التي تعتبر من أهم الشروط الموجودة عند الطعام و الشراب ، هذه الطمأنينة يحصل عليها الإنسان في حالة الجلوس حيث تكون الجملة العصبية و العضلية في حالة من الهدوء و الاسترخاء و حيث تنشط الأحاسيس و تزداد قابلية الجهاز الهضمي لتقبل الطعام و الشراب و تمثله بشكل صحيح .

و يؤكد د. الراوي أن الطعام و الشراب قد يؤدي تناوله في حالة الوقوف ( القيام) إلى إحداث انعكاسات عصبية شديدة تقوم بها نهايات العصب المبهم المنتشرة في بطانة المعدة ، و إن هذه الإنعكاسات إذا حصلت بشكل شديد و مفاجىء فقد تؤدي إلى انطلاق شرارة النهي العصبي الخطيرة Vagal Inhibation لتوجيه ضربتها القاضية للقلب ، فيتوقف محدثاً الإغماء أو الموت المفاجىء .كما أن الإستمرار على عادة الأكل و الشرب واقفاً تعتبر خطيرة على سلامة جدران المعدة و إمكانية حدوث تقرحات فيها حيث يلاحظ الأطباء الشعاعيون أن قرحات المعدة تكثر في المناطق التي تكون عرضة لصدمات اللقم الطعامية و جرعات الأشربة بنسبة تبلغ 95% من حالات الإصابة بالقرحة . كما أن حالة عملية التوازن أثناء الوقوف ترافقها تشنجات عضلية في المريء تعيق مرور الطعام بسهولة إلى المعدة و محدثة في بعض الأحيان آلاماً شديدة تضطرب معها وظيفة الجهاز الهضمي و تفقد صاحبها البهجة عند تناوله الطعام و شرابه

صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم

الأربعاء، 27 مايو 2009

من وصايا لقمان لابنة

قال تعالى : [ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ].

وقال تعالى : [ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ].

من وصايا لقمان لابنـــه

يا بني:ما ندمت على السكوت قط.
يا بني:اعتــزل الشر يعتزلك ، فإن الشر للشــرخلق ....

يا بني:عود لسانك : اللهم اغفر لي ، فإن لله ساعات لا يـــرد فيها سائـــلاً.
يا بني:اتخذ طاعة الله تجارة تأتيك الأربــاح من غير تجـــارة ...
يا بني : لا تكثر النوم والأكل ، فإن من أكثر منهما جاء يوم القيامة مفلسا من الأعمال الصالحة ..
يا بني:بئراً شربت منـــه ، لا تــــرمي فيه حجــــــراً .....
يا بني:عصفور في قدرك خير من ثــــور في قدْرغيرك .....
يا بني: شئيان إذا حفظتهما لا تبالي بما صنعت بعدهما دينك لمعادك ، ودرهمك لمعاشك .
يا بني:إنه لا أطيب من القلب واللسان إذا صلحــا ، ولا أخبث منهما إذا فسدا.
يا بني: لا تركن إلى الدنيا ولا تشغل قلبك بها فإنك لم تخلق لها ...
يا بني: لا تضحك من غير عجب ، ولا تسأل عما لا يعنيــك ...
يا بني:إنه من يرحم يُرحم ، ومن يصمت يسلم ، ومن يقل الخير يغنم ، ومن لايملك لسانه يندم ...
يا بني:زاحم العلماء بركبتيك ، وأنصت لهم بأذنيك ،فإن القلب يحيا بنورالعلماء.
يا بني:مررت على كثير من الأنبياء فاستفدت منهم عدة أشيــــــاء :
يا بني: إذا كنت في صلاةفاحفــــظ قلبك.
يا بني:وإذا كنت في مجلس الناس فاحفظ لسانك ...
يا بني:وإذا كنت في بيوت الناس فاحفظ بصرك ...
يا بني:وإذا كنت على الطعــام فاحفظ معدتك ...
يا بني : واثــنــتـــان لاتذكرهمـــا أبدأ :
إســـــــــــــاءة الناس إليك
وإحسانك للناس.

الثلاثاء، 26 مايو 2009

عبادة الأوثان في عصر النبي إبراهيم

قال الله تعالى:( مَا كَانَ إِبْراهيمُ يَهُودِيّاً ولا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ
المُشْرِكِيْنَ * إِنَّ أَوْلىَ النَّاسِ بإِبْرَاهِيْمَ لَلَّذِيْنَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِيْنَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِيْنَ
) (آل عمران: 67-68).

يُذكر النبي إبراهيم في القرآن عدة مرات وفي عدة مناسبات، ويصفه الله عز وجل بأنه قدوة للبشرية، لقد نقل إبراهيم عليه السلام رسالة الله إلى قومه الذين كانوا يعبدون الأوثان وأنذرهم أن يخافوا الله، إلا أن قومه لم يستمعوا له ولدعوته، بل ظلوا على معاكستهم له، وعندما ازدادت معارضة قومه كان على إبراهيم أن يهجرهم إلى مكان آخر مع زوجته والنبي لوط وربما مع بعض المؤمنين.

ينحدر سيدنا إبراهيم من سلالة نوح عليه السلام، ويخبرنا القرآن أنه اتبع نهجه:

قال الله تعالى :( سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِيْنَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِيْنَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِيْنَ *

ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّ مِنْ شِيْعَتِهِ لإِبْرَاهِيْم
) (الصافات: 79-83) .

في زمن إبراهيم عليه السلام كان الكثير ممن يسكنون " وادي الرافدين " وهضبة الأناضول يعبدون الشمس والقمر والنجوم، كان "سن" أكثر آلهتهم شهرة وهو إله القمر، وكانوا يمثلونه كإنسان بلحية طويلة يرتدي ثوباً ويحمل قمراً في يده على شكل هلال، وكان هؤلاء ينقشون صوراً وينحتون تماثيل لهذه الآلهة ويعبدونها، انتشر نظام العبادة هذا انتشاراً واسعاً، وقد وجد تربة خصبة ومناسبة في منطقة الشرق ضمنت له استمراراً جيداً ولوقت طويل. بقي الناس يعبدون هذه الآلهة حتى سنة 600 ميلادية، نتيجة لهذا المعتقد ظهرت أنواع من الأبنية سميت "الزقورات" على امتداد المنطقة الواقعة ما بين "وادي الرافدين " وهضبة الأناضول الداخلية وكانت تستخدم كمعابد ومراصد فلكية، هنا عبد إله القمر "سن" (1).

نقش حجري يصور إله القمر سن الذي كشفت عنده الحفريات مؤخراً عثر عليه في أور

نقش حجري آخر يصور إله القمر سن الذي كشفت عنده الحفريات مؤخراً عثر عليه في أور

هذا الدين الذي لم يكتشف قبل الحفريات الأثرية العصرية، كلمنا عنه القرآن الكريم، لقد رفض إبراهيم عليه السلام عبادة هذه الأوثان، التفت لعبادة الله وحده، تبين لنا الآيات آلاتية كيف كان سلوك إبراهيم وموقفه إزاء هذا المعتقد:

قال الله تعالى:( وَإذْ قَالَ إِبْرَاهِيْمُ لأَبِيْهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَومَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِيْنٍ * وَكَذلِكَ نُري إبْرَاهِيْمَ مَلَكُوتَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِيْنَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِيْنَ * فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازغةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذا أَكْبَرُ فَلما أفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنّي بَريءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ حَنِيْفاً ومَآ أَناْ مِنَ المُشْرِكِيْنَ ) (الأنعام: 74-79).

لم يذكر القرآن مكان ولادة وإقامة إبراهيم(عليه السلام) بالتفصيل، إلا أنه ذكر لنا أنه أقام هو ولوط في منطقتين متقاربتين وكانا في زمن واحد، دل على ذلك ما ذكره لنا القرآن الكريم من مرور الرسل الذين جاؤوا قوم لوط على إبراهيم عليه السلام وتبشيرهم امرأته بغلام قبل أن يصلوا إلى مدينة لوط.

هناك موضوع مهم في قصة إبراهيم(عليه السلام) لم يذكره العهد القديم وهو بناء الكعبة، في القرآن نجد أن الكعبة قد بنيت بيدي إبراهيم وابنه إسماعيل، الشيء الوحيد الذي يعرفه المؤرخون اليوم حول ماضي الكعبة هو أنها كانت مكاناً مقدساً منذ زمن بعيد، أما وجود الأصنام في الكعبة في العصر الجاهلي الذي سبق محمداً صلى الله عليه وسلم، فقد جاء نتيجةً للتشويه الذي أصاب دين إبراهيم الحنيف الذي أوحي إليه والانحراف عنه.


بنيت الزاكورات التي كانت تستخدم كمعابد ومراصد فلكية في وقت واحد، بتقنيات ذلك العصر المتقدمة جداً. كانت النجوم والقمر والشمس هي المعبودات الرئيسية؛ لذلك كانت السماء على جانب من الأهمية بالنسبة لهم. تظهر زاكورات وادي الرافدين الهامة إلى اليسار والأسفل.

إبراهيم عليه السلام حسب رواية العهد القديم

العهد القديم هو المصدر الوحيد الذي يحتوي على الكثير من تفاصيل حياة النبي إبراهيم(عليه السلام)، إلا أن الكثير منها غير موثقة، ولد إبراهيم(عليه السلام) حسب رواية التوراة عام 1900 قبل الميلاد في مدينة أور، إحدى أهم مدن ذلك الزمان، والتي كانت تقع إلى الجنوب الشرقي من سهول "وادي الرافدين "، عندما ولد لم يكن اسمه إبراهيم، بل كان اسمه أبرام ثم غيره الإله يهوه فيما بعد.

وفي أحد الأيام طلب الإله من أبرام أن يترك مدينته وقومه ويذهب إلى مكان آخر غير محدد، وأن يقيم مجتمعاً جديداً، سمع أبرام هذا النداء وهو في الخامسة والسبعين من عمره، فخرج وزوجته العاقر ساراي - والتي ستحمل اسم سارَّة فيما بعد ومعناه الأميرة - وابن أخيه لوط، وأثناء توجههم إلى الأرض المختارة، توقفوا في حَرَّان ثم تابعوا طريقهم، وعندما وصلوا إلى أرض كنعان التي وعدهم الله بها، أُخبروا أن هذه الأرض قد اختيرت ووهبت لهم خصيصاً، وعندما بلغ أبرام التاسعة والتسعين أبرم موثقاً مع الله وتغير اسمه إلى إبراهيم. توفي وهو في السابعة والخمسين بعد المئة من عمره ودفن في كهف في ماتشبيله قريباً من مدينة حَبْرُون (الخليل) في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل، هذه الأرض التي اشتراها إبراهيم مقابل مبلغ من المال، كانت أول ما امتلكه هو وعائلته في الأرض الموعودة .


كشفت الحفريات أن قوم إبراهيم كانوا يبعدون الشمس والقمر والنجوم وقد ظهر هذا جلياً في النقوش الأثرية التي كشفتها التنقيبات الأثرية في مدينة أور، يظهر في الصورة نقش للثلاثي الوثني المقدس (الشمس والقمر والنجوم)

مكان ميلاد إبراهيم (عليه السلام)حسب رواية العهد القديم

بقي هذا الموضوع محل نقاش مستمر، فبينما يقول اليهود والنصارى: إن إبراهيم(عليه السلام) قد ولد في جنوبي " وادي الرافدين ".

اعتمد اليهود والنصارى في روايتهم على العهد القديم، ففيه يذكر أن إبراهيم قد ولد في مدينة أور جنوب ما بين النهرين، بعد أن شب إبراهيم (عليه السلام) في هذه المدينة، هاجر إلى مصر في رحلة طويلة، مر فيها على منطقة حران التركية.

لماذا تغير العهد القديم

يبدو العهد القديم والقرآن وكأنهما يرويان قصة عن شخصين مختلفين هما أبراهام وإبراهيم (عليه السلام)، ففي القرآن الكريم بُعث إبراهيم كرسول إلى قوم وثنيين يحمل رسالة سماوية، كان قومه يعبدون السماء والنجوم والقمر وأوثاناً مختلفة، وقف إبراهيم(عليه السلام) في وجه قومه محاولاً أن يردهم عن ضلالتهم إلى الطريق الصحيح، والنتيجة أنه حرك حقدهم وعداءهم تجاهه بمن فيهم أبوه.

في الحقيقة لا يوجد شيء من هذا في العهد القديم، كذلك قصة رمي إبراهيم في النار وكسره لأصنام قومه غير مذكورة أيضاً. يُصَوَّرُ إبراهيم في العهد القديم على أنه جد اليهود، من الواضح أن هذه الفكرة مأخوذة عن زعماء اليهود الذين يحاولون تثبيت مفهوم السلالة. يؤمن اليهود بأنهم شعب اختاره الله واعتبره النخبة دون غيره من الشعوب، لقد قاموا عن قصد وإصرار بتغيير كتابهم السماوي، وزادوا عليه ليتوافق مع هذا المفهوم، لهذا السبب يصورون إبراهيم على أنه جدُّهم في توراتهم.

ويؤمن النصارى الذين يصدقون بالتوراة، أن إبراهيم (عليه السلام) جد اليهود، مع فارق بسيط هو أنهم يعتبرونه نصرانياً وليس يهودياً، اعتنق النصارى ـ الذين لا يهتمون بمفهوم السلالة كما يهتم اليهود ـ هذا الرأي بشدة، مما أثار الخلاف والنـزاع بينهم وبين اليهود، ويبين لنا القرآن هذا الخلاف بقوله تعالى:

( يَاأَهْلَ الكِتَابِ لم تُحَآجُّونَ في إِبْراهِيْمَ وَمَآ أُنْزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنْجِيْلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * هَآ أَنْتُمْ هَؤلآءِ حَاجَجْتُمْ فِيْمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيْمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْراهِيْمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيْفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِيْنَ * إِنَّ أَوْلىَ النَّاسِ بإِبْراهِيْمَ لَلَّذِيْنَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِيْنَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِيْن) (آل عمران:65،68).

يبدو التباين واضحاً بين القرآن والتوراة، فإبراهيم في القرآن هو رسول بعثه الله إلى قومه لينذرهم ويدعوهم إليه، ومن أجل هذا خاصمهم ووقف ضدهم، كان يحذر قومه الذين عبدوا الأصنام وينصحهم بأن يتخلوا عن ممارساتهم الوثنية منذ أن كان شاباً، وكانت استجابة قومه أن عزموا على قتله، وبعد أن نجا من أحقاد قومه وشرورهم، كانت الهجرة آخرَ الحلول...

تم نشر المقالة بتصرف

الهوامش

1-إيفيرت بلاك، آنا إدموندز، المواقع الإنجيلية في تركيا، استنبول: دار الأحمر للطباعة والنشر

المصدر :موقع هارون يحيى



الأحد، 24 مايو 2009

ألم أسفل الظهر Lumbago

يشكو كثير من الناس من ألم أسفل الظهر مرة واحدة خلال حياتهم على الأقل، و يشكل هؤلاء نسبة هامة من المرضى الذين يراجعون عيادة الأمراض المفصلية.

تكمن أسباب عديدة وراء ألم أسفل الظهر، و منها ما ينتج عن العظام و المفاصل الظهرية مثل آفات القرص الفقري (الديسك)، و يعود سبب غيرها إلى الأنسجة و الأعضاء القريبة من الفقرات و المتصلة بها مثل العضلات و الأعصاب، و لا يتمكن الطبيب إلا من توقع مكان و سبب الإصابة في أغلب الحالات، و يطلق كثير من الأطباء تسمية الديسك أو عرق النسا مجازياً على العديد من الأمراض في العمود الفقري القطني، و قد تكون الكلمة مرفقة بكلمات أخرى مثل ديسك خفيف، أو بداية ديسك، أو التهاب أعصاب أو غيرها، و أورد هنا بعض أسباب ألم أسفل الظهر:

الوثي و الإجهاد القطني

تنكس الأقراص و المفاصل بين الفقرات.

الفتق القرصي (الديسك الحقيقي).

تضيق القناة الشوكية.

تخلخل العظام.

انزلاق الفقار.

الكسور الرضية.

ميل العمود الفقري.

الأورام.

العداوي (الإنتانات الجرثومية مثل التهاب العظم و النقي و الحمى المالطية و السلو غيرها).

بعض أمراض الحوض و انثقاب القرحة و التهابات المجاري البولية و التهاب البنكرياس و غيرها.

بعض أمراض الروماتيزم الالتهابي مثل التهاب الفقار اللاصق و غيره.

يوجد الكثير من الأعراض التي يراجع بها المريض الذي لديه إصابة على مستوى العمود الفقري القطني (فقرات أسفل الظهر) إضافة إلى الألم، و تساعد هذه الأعراض الطبيب في وضع التشخيص الصحيح إلى حد بعيد حتى دون اللجوء إلى الفحوص الشعاعية أحياناً، و يعد انتشار الألم إلى الرجل و القدم بشكل خدر و نمل من أهم صفات الألم الجذري الذي يشير إلى تخريش جذر عصبي في فتق القرص الفقري مثلاً (الديسك)، و يزداد هذه الألم بالسعال و العطاس غالباً و يزداد بالانحناء للأمام في الفتق و بالانحناء للخلف في تضيق القناة الفقرية من سبب آخر، و يكثر حدوث ألم مفاجئ في العمود القطني يعيق الحركة دون أن ينتشر أو يزداد بالسعال و العطاس في الانعقال الفقري و ما يرافقه من تشنج عضلي، و أحب أن أشير إلى أن ألم أسفل الظهر مع ما يسببه من إعاقة و إثقال جسدي و نفسي قد يكون شديداً فهو لا ينتج عن أمراض خطيرة إلا في نسبة قليلة من المرضى.

و أذكر هنا بعض الأعراض التي تستوجب مراجعة الطبيب حتماً و بشكل سريع:

الألم المفاجئ الذي يعيق الحركة.

تشنج الرجل من جذرها بالمشي.

ترافق الألم بالحمى.

اضطراب التبول أو التغوط.

الألم المزمن الذي أصبح لا يستجيب على المسكنات العادية.

الألم الليلي.

الإحساس بالتيبس صباحاً و عدم القدرة على النهوض من الفراش و الحركة بشكل طبيعي إلا بعد فترة زمنية مديدة.

وجود أعراض مرافقة مثل الحرقة أثناء التبول و الإسهال المتردد منذ فترة طويلة.

الأعمار المتقدمة و عند النساء في سن الأياس.

تجرى الصور الشعاعية البسيطة بوجود قصة رض، أو حمى، أو نقص وزن غير مفسر، أو قصة سرطان، أو خدر و نمل أو ضعف عضلي، أو للمرضى بعمر فوق 50 سنة، أو غيرها، كذلك تجرى في حال عدم تحسن الألم على العلاج بالمسكنات بعد 4 – 6 أسابيع، و يجرى مع التصوير استقصاءات مخبرية مثل قياس سرعة التثفل و تعداد الدم الكامل، و قد يتطلب الأمر إجراء التصوير المقطعي المحوسب CT و تصوير الرنين المغناطيسي MRI، و يجب الانتباه إلى أن كشف تبدلات تنكسية أو تبارز أو فتق قرصي بهذه الوسائط شائع و لا يدل بالضرورة على أنها سبب الألم، بل حتى إنها تسبب تشويش الفاحص أحياناً، و لذلك لا يجب أن تثير هذه الموجودات قلق المريض كثيراً و يترك تفسيرها للطبيب المعالج وحده، و توجد استقصاءات أخرى تترك لبعض الحالات الخاصة مثل تخطيط الأعصاب و العضلات و التصوير الشعاعي الظليل و التصوير الومضاني للجسم.

يتحسن ألم أسفل الظهر لا النوعي خلال أسبوع عند ثلث المرضى و خلال سبعة أسابيع من البدء عند ثلثي المصابين عادة، و لكن نسبة عودة الألم تبقى عالية، و لا يعني نكس الألم خطورة زائدة عادة و هو يحمل نفس إنذار الألم الأول، و قد يتطلب الأمر إعادة بعض الفحوص المخبرية و الشعاعية عند تغير طبيعة أو شدة الألم، و أشير إلى ألم أسف الظهر لا يسبب العجز إلا نادراً.

ألتدبير:

تفيد مضادات الالتهاب غير الستيرويدية والمرخيات العضلية كعلاج عرضي للألم غير النوعي غالباً، و يجب التنبيه إلى أن هذه الأدوية تتمكن من تخفيف معظم آلام أسف الظهر مهما كان نوعها، و لو إلى حين، و لا يفضل وصف العلاج الفيزيائي في بعض حالات الألم الحاد إذ قد يزيد ذلك من الألم، و ينصح بالعودة السريعة إلى الفعاليات الحياتية الاعتيادية مع تجنب حمل الأثقال و عطف الجذع خلال الطور الألمي الحاد.

يعالج فتق القرص الفقري (الديسك الحقيقي) دوائياً لفترة كافية في البدء إلا إذا ترافق مع أعراض و علامات عصبية فيجرى التصوير المناسب سريعاً لتقرير ضرورة إجراء عمل جراحي بالطريق المفتوح أو المغلق، و قد يفيد إعطاء حقن دوائية في الظهر، أو إعطاء الستيرويدات (الكورتيزون) أحياناً، و أشير إلى أن ألم قليل من المرضى لا يخف بالجراحة مطلقاً، و يترك لجراح الأمراض العصبية شرح ذلك لمن تلزم الجراحة لهم.

يسبب مرض تخلخل العظام (و يطلق عليه أيضاً ترقق العظام أو وهن العظام أو هشاشة العظم) ألم الظهر أحباناً و يحتاج ذلك إضافة إلى تسكين الألم إلى إعطاء مقويات العظم و الوقاية من الكسور، و يجب إعطاء هذه الأدوية مدى الحياة عادة و لا يكفي إعطاؤها أثناء نوبة الألم.
يجب الإشارة إلى أن ألم أسفل الظهر يمكن أن يؤدي مثل كل الآلام المزمنة إلى انزعاج شديد للمريض يؤثر على نفسيته بشكل يتفاوت بين مريض و آخر، و قد يعطي الطبيب بعض الأدوية المهدئة أحياناً.

و تبقى الوقاية ممكنة رغم قلة أهميتها هنا، إذ يمكن للتمرين في الهواء الطلق و التمارين الخاصة بتقوية عضلات الظهر و الرجلين أن تقلل من تكرار حدوث الألم، و قد يفيد إنقاص الوزن و إيقاف التدخين، و يفيد الابتعاد عن الإجهاد في العمل في إنقاص مدة الألم.



د. حسان لايقة

أخصائي أمراض المفاصل و الروماتيزم و أمراض المناعة




السبت، 23 مايو 2009

من نطفة خلقه فقدره

هذا الجنين بدأت عملية خلقه من خلية واحدة فقط وكذلك هو الحال مع جميع أنواع الكائنات الحية إن عملية تحول خلية واحدة فقط إلى كائنات حية بمختلف الأشكال والألوان والأحجام تحدث أمام أعين البشر كل يوم تطلع فيه الشمس ولكن قل من يلقي لها بالا أو أن يتساءل عمن يقف وراء عملية التحول هذه وصدق الله العظيم القائل "وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ" يوسف 105.

فكم من بلايين البلايين من البذور تنبت كل يوم لتخرج شتى أنواع الأعشاب والأزهار والزروع والأشجار يصعب حتى على المختصين حصر عدد أنواعها؟ وكم من البيوض التي لا يعلم عددها إلا الله تفقس كل يوم لتنتج حشرات وزواحف وأسماك وطيور لا يعلم إلا الله عدد أنواعها؟ وكم من ملايين الحيوانات الثدية تلد إناثها كل يوم مواليد بمختلف الأشكال والأحجام؟ إن عملية التحول هذه تتجلى في أوضح صورها في تحول بيوض الحشرات والزواحف والأسماك والطيور إلى كائنات بالغة التعقيد في ساعات أو أيام معدودة. فالبذور تتحول إلى نباتات وهي مغروسة في الأرض والنطف تتحول إلى حيوانات وهي مزروعة في أرحام أمهاتها ولذا فقد يظن البعض أن الأرض أو الأرحام هي المسؤولة عن عملية التحول هذه. أما البيوض فلا ترتبط بأي مصدر خارجي قد يظن أنه يلعب دورا في إجراء عملية التحول هذ ولهذا فلا مجال للشك بأن هذه البيضة التي هي عبارة عن خلية واحدة قد تحولت من تلقاء نفسها إلى كائن حي. إن الذي يشاهد بيضة الدجاجة وهي تتحول في ثلاثة أسابيع من مادة شبه متجانسة لا حياة فيها إلى صوص يبدأ بالمشي بمجرد خروجه من البيضة لا بد وأن تصيبه الدهشة ويعترف بأن هنالك معجزة في عملية التحول هذه. ولا بد لهذا الإنسان من أن يتساءل عن الكيفية التي تمكنت بها هذه الخلية التي لا عقل لها من أن تعطي أوامر في غاية الذكاء لبقية الخلايا التي انقسمت منها لكي تقوم بالمهمة المنوطة بها في الزمان والمكان المناسبين! فأعضاء الطائر المختلفة تتطلب أنواعا مختلفة من الخلايا التي تحتاج لأن تغير من خصائصها أثناء الانقسام لتنتج الخلايا التي يبنى منها هيكل الطائر العظمي وعضلاته وجلده وقلبه وكبده ورئته ومعدته وريشه وغير ذلك من الأعضاء. ومما يثير العجب أن كمية المادة الخام التي يحتاجها تصنيع الطائر قد تم حسابها بشكل بالغ الدقة بحيث تتحول بكاملها إلى مكونات الطائر المختلفة فصوص الدجاج يحتاج لتصنيعه لما يقرب من خمسين غرام من المواد العضوية الخام وصوص العصافير يحتاج لتصنيعه أقل من عشرة غرامات من المادة بينما تحتاج الأسماك والحشرات لإنتاج صغارها بيوض بأوزان أقل من ذلك بكثير.

إن الطريقة التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتصنيع الكائنات الحية فيها من التعقيد والإبداع والإتقان بحيث لا يمكن لإنسان عاقل أن ينسبها للصدفة بل لا يمكن لها أن تنجز إلا من قبل صانع لا حدود لعلمه وقدرته كما سنبين ذلك فيما بعد. فهذه الطريقة في تصنيع الأشياء ما كانت لتخطر على بال البشر ابتداء ولا يمكنهم بأي حال من الأحوال أن يقلدوها لتصنيع ما يحتاجون من أشياء حتى لو عرفوا كامل تفصيلاتها. فالبشر إذا ما أرادوا تصنيع شيء ما فإنهم يقومون بالبحث عن المواد الخام المتوفرة في تراب الأرض فيستخرجونها ويعالجونها ويشكلونها على شكل قطع وهياكل يستخدمونها في تصنيع مختلف أنواع الأدوات والأجهزة والمعدات. ومن الواضح أن طريقة التصنيع البشرية هذه تتطلب وجود إنسان له عقل يستخدمه ليتخيل ما سيكون عليه شكل الشيء المصنوع وأيدي وأعين يمكنه من خلالها تصنيع ووضع القطع المختلفة في الأماكن المخصصة لها في جسم ذلك الشيء. أما الطريقة الربانية في التصنيع فإنها تختلف تمام الاختلاف عن الطريقة البشرية حيث أن السر الأعظم فيها هو في قدرة الأشياء المصنوعة على إنتاج نسخ طبق الأصل عن نفسها بنفسها وذلك دون تدخل أيّ قوة خارجية. فقد اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يصنع نسخة واحدة فقط من كل نوع من أنواع الكائنات الحية والتي تعد بعشرات الملايين وقد تم برمجة كل نسخة بحيث يمكنها القيام بتصنيع نسخ عنها بطريقة تلقائية ودون توقف. وبما أن هذه الكائنات الحية تحتاج للطاقة لكي تعمل فقد تم برمجتها بحيث يمكنها من تلقاء نفسها توفير الطاقة اللازمة لتشغيل أجسامها من المحيط الذي تعيش فيه سواء كانت هذه الكائنات نباتات لا يمكنها الحركة إطلاقا أو حيوانات تتحرك بكل حرية في البر والبحر والجو. إن مجرد اختيار هذه الطريقة الذكية لتصنيع الأشياء يدحض بشكل قطعي أيّ دور للصدفة في تصنيع الكائنات الحية فأقصى ما يمكن أن تفعله الصدفة هو أن تجمع مكونات شيء ما في حيز واحد ثم تبدأ هذه المكونات بالتراكب مع بعضها بطريقة عشوائية وقد تنجح بعد محاولات كثيرة في تصنيع بعض الأشياء البسيطة. أما أن تقوم الصدفة بالعمل على اختراع طريقة يمكن من خلالها إنتاج نسخ جديدة عن النسخة التي أنتجتها أول مرة وبالصدفة فهذا ما لا يقبله أي عقل سليم. فالصدفة لا وعي لها ولا عقل لها وليس لها مصلحة في أن تخترع طريقة تضمن إنتاج نسخ جديدة عن الشيء الذي سبق أن صنعته. إن الصدفة أعجز من أن تجمع مكونات أبسط الأشياء تركيبا كتصنيع كرسي في غابة مليئة بالأشجار أو مسمار في منجم للحديد فكيف يمكن لها أن تجمع مكونات كائنات حية لها أجسام بالغة التعقيد عجز العلماء عن فهم كثير من أسرارها. ولولا أن طريقة التصنيع الذاتية هذه تحدث أمام أعين البشر كل يوم لما ترددوا في تكذيب فكرة أن يقوم شيء ما بإنتاج نسخة عن نفسه من تلقاء نفسه ولقالوا أن ذلك ضرب من الخيال!

إن طريقة التصنيع الربانية هذه تحتاج لوضع خطة محكمة لخطوات التصنيع لكي تعمل على الوجه الأكمل ولفترات طويلة من الزمن كما نشاهد ذلك في الكائنات الحية التي ظهرت قبل بلايين السنين ولا زالت تنتج نسخا طبق الأصل عن نفسها. وبما أن البشر في هذا العصر على دراية بطرق تصنيع الأشياء على خطوط الانتاج تحت سيطرة الحواسيب فليس من الصعب عليهم أن يحددوا ولو بشكل نظري الخطوات الرئيسية التي تلزم لتصنيع الكائنات الحية باستخدام هذه الطريقة التلقائية. فعملية التصنيع هذه تحتاج أولا تحديد مواصفات الشيء المراد تصنيعه ومن ثم يتم تخزين هذه المواصفات في ذاكرة ما كما يفعل البشر عندما يقومون بتخزين مواصفات الأشياء التي يصنعونها إما في عقولهم أو على الورق أو في ذاكرات الحواسيب. أما الخطوة التالية فهي كتابة برنامج كامل يحدد الخطوات التي يجب أن يتم اتباعها لتصنيع الشيء المراد تصنيعه طبقا للمواصفات المخزنة في الذاكرة. أما الخطوة الثالثة فهي تنفيذ برنامج التصنيع بطريقة ما بحيث يتم تصنيع هذا الشيء باستخدام المواد الخام اللازمة إلى جانب توفير الطاقة اللازمة لعملية التصنيع. وهذا ما تم اكتشافه تماما من قبل العلماء فقد كتب الله سبحانه وتعالى مواصفات أجسام جميع أنواع الكائنات الحية بطريقة رقمية على أشرطة طويلة ودقيقة من الحامض النووي أودعها سبحانه داخل الخلايا الحية. وبمجرد وضع هذه الخلايا في الوسط المناسب فإن شريط الحامض النووي يقوم بتنفيذ برنامج التصنيع المخزن عليه ليصنع كائن حي كامل ابتداء من هذه الخلية. ولم يكتف سبحانه وتعالى ببرمجة الخلية الحية بحيث يمكنها إنتاج كائن حي بكامل تفاصيله لمرة واحدة فقط بل قام ببرمجة خلايا الكائن الحي الناتج بحيث يمكنه إنتاج خلية حية تكاثرية تقوم بتصنيع كائن جديد يقوم بدوره بإنتاج خلية جديدة وهكذا دواليك. وبما أن هنالك ملايين الأنواع من الكائنات الحية تعيش على سطح الأرض وتعتمد على بعضها البعض في توفير أسباب عيشها وضمان بقائها فإنه من الضروري وجود توازن بين أعداد هذه الكائنات بحيث لا يتعرض بعضها للانقراض وهذا يتطلب كتابة البرامج المتعلقة بأعمار ومعدلات تكاثر وأنواع طعام ملايين الأنواع من الكائنات بشكل بالغ الدقة. وتتم عملية تكاثر الكائنات الحية بشتى أنواعها بطريقة غريزية بحيث يقتصر دور الكائنات الحية بما فيها الإنسان على التزاوج بدافع الشهوة وكذلك رعاية بعض أنواع الكائنات حديثة الولادة لفترة قصيرة من الزمن. وباستثناء التزاوج والرعاية فإن جميع الكائنات الحية لا تتدخل أبدا في عملية التصنيع هذه، فالإنسان وهو الوحيد بين الكائنات الحية القادر على تصنيع الأشياء يقف مكتوف الأيدي إذا ما فشل جسمه أو جسم زوجه في إنتاج خلايا التكاثر التي تنتج كائنا جديدا منهما.

ولقد شرحنا في مقالة سابقة تحت عنوان قوله تعالى"ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ" تركيب شريط الحامض النووي وذكرنا أنه هو المسؤول عن تصنيع أجسام جميع أنواع الكائنات ابتداء من خلية واحدة. فكامل مواصفات جسم الكائن الحي وكذلك برنامج تصنيعه قد تمت كتابتها بطريقة رقمية وبكثافة تخزين تصل إلى ثلاثين مليون حرف على كل سنتيميتر من طول الشريط. وقد تم لف هذا الشريط الذي يبلغ عرضه نانومترين اثنين فقط وقد يصل طوله إلى المترين بطريقة بالغة الاتقان على اسطوانات بروتينية يصل قطر الواحدة منها ثلاثين نانومتر ولا يتجاوز طولها الميكرومتر الواحد لكي يتم وضعه في خلايا لا يتجاوز قطرها عدة ميكرومترات. وقد تم كتابة برنامج التصنيع باستخدام أربعة أحرف وشيفرات يبلغ طول الواحدة منها ثلاثة أحرف مما يعني أن عدد الشيفرات يبلغ أربع وستون شيفرة كما هو مبين في الشكل. إن المسافة بين حروف الشيفرة الوراثية لا يتجاوز ثلث نانومتر ولذلك فإنه من المستحيل رؤيتها إلا باستخدام الميكرسكوبات الإلكترونية. وفي مقابل ذلك نجد أن هذا الشريط يقوم من خلال بعض مكونات الخلية من قراءة كل حرف من حروفه وبنسبة خطأ لا تكاد تذكر. إن كتابة المعلومات الوراثية بهذه الطريقة الرقمية وبهذه الكثافة العالية تعتبر معجزة من معجزات الحياة ولكن هذه المعجزات لا تقارن أبدا بالمعجزات الموجودة في الآليات التي يستخدمها هذا الشريط لتصنيع أجسام الكائنات. وبما أن برنامج التصنيع هذا مكتوب بطريقة رقمية فإن أول ما تبادر لذهن العلماء حول الكيفية التي يتم بها تنفيذ هذا البرنامج هو الطريقة التي ينفذ بها الحاسوب الرقمي برامجه. فالحاسوب يقوم بتنفيذ البرنامج من خلال تخزينه في الذاكرة وبمجرد إعطاء إشارة البدء لتنفيذ البرنامج من قبل الإنسان فإن وحدة المعالجة المركزية تتولى تنفيذ البرنامج من خلال جلب الأوامر والبيانات من الذاكرة إليها ثم تقوم بمعالجتها وإصدار التعليمات للوحدات الطرفية لإظهار النتائج. ولقد خاب ظن العلماء عندما وجدوا أن الخلية الحية لا تحتوي على وحدة معالجة مركزية تقوم بتنفيذ التعليمات المخزنة على الشريط الوراثي بل وجدوا أن هذا الشريط يقوم بكامل مهام الحاسوب فهو يعمل كوحدة معالجة مركزية ويعمل كذاكرة لتخزين المعلومات في نفس الوقت. إن الشريط الوراثي أشبه ما يكون بالشريط المغناطيسي الذي كانت تستخدمه الأنواع الأولى من الحواسيب حيث أن البرامج والمعلومات مكتوبة بشكل متسلسل على طول الشريط. وفي الحواسيب القديمة تقوم وحدة المعالجة المركزية بالتحكم في حركة البكرات التي تحمل الشريط وذلك للوصول إلى مكان الأوامر والبيانات المخزنة عليه ولكن الشريط الوراثي يرقد ساكنا في داخل نواة الخلية إلا أنه يقوم بتنفيذ برامج رقمية يفوق تعقيدها ملايين المرات التعقيد الموجود في برامج الحاسوب.

لقد انصبت جهود علماء الأحياء على كشف أربعة أسرار رئيسية في هذه الطريقة الربانية لتصنيع الأشياء فالسر الأول يتعلق بالطريقة التي يتمكن بها الشريط الوراثي أحادي البعد لتصنيع البروتينات وهي جزيئات ثلاثية الأبعاد تستخدم كلبنات لبناء مكونات الخلية وكأنزيمات للتحكم في العمليات الحيوية ولقراءة المعلومات الوراثية. أما السر الثاني فيتعلق بالطريقة التي يتم بها بناء مكونات الخلية البالغة الصغر والبالغة التعقيد من هذه البروتينات في غياب أي قوة خارجية تقوم بوضعها في الأماكن المخصصة لها في جسم المكون. أما السر الثالث فيتعلق بالطريقة التي تنقسم بها الخلية إلى خليتين متماثلتين وكذلك الشريط الوراثي إلى شريطين. أما السر الرابع فيتعلق بالطريقة التي تصطف بها الخلايا المنقسمة لتصنع كل جزء من أجزاء جسم الكائن الحي وذلك ابتداء من خلية واحدة. ولقد تمكن علماء الأحياء من كشف بعض الآليات التي يستخدمها الشريط الوراثي لتنفيذ البرامج المخزنة عليه ووجدوا أن فيها من التعقيد ومن الإتقان ما يجعل الإنسان العاقل يسلم بأن الذي صممها لا حدود لعلمه وقدرته سبحانه وتعالى. إن كل آلية من هذه الآليات يحتاج شرحها مقالة كاملة ولكن لكي لا تطول هذه المقالة سنكتفي بشرح الخطوط الرئيسية لكل آلية من هذه الآليات.

أما الآلية الأولى في طريقة التصنيع الذاتية فهي أن كل كلمة من كلمات الشريط الوراثي هي عبارة عن شيفرة لأحد الأحماض الأمينية العشرين التي تبنى منها البروتينات والتي تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية ترتبط ببعضها البعض وفق ترتيبات محددة. وقد اكتشف العلماء أن الجينات الموجودة على الكروموسومات ما هي إلا برامج تحدد ترتيب الأحماض الأمينية لكل بروتين ويتراوح عدد الجينات في الكائنات الحية بين عدة جينات في الفيروسات وعشرات الآلاف من الجينات في الإنسان. ويتم تصنيع البروتينات في الرايبوسومات الموجودة في سيتوبلازم الخلية بعد أن يتم تزويدها بالأحماض الأمينية ونسخة من التعليمات التي تبين ترتيبها. وبما أن هذه التعليمات مخزنة على الشريط الوراثي الموجود في نواة الخلية والذي لا يمكنه مغادرتها بسبب كبر حجمه النسبي فقد تمكن العلماء من اكتشاف شريط حامض نووي أحادي السلسلة يسمى الشريط المراسل يقوم بأخذ نسخة عن ترتيب الأحماض الأمينية وينقلها إلى الرايبوسومات. وقد ذهل العلماء عند اكتشافهم تركيب الرايبوسومات حيث وجدوا أنها تستخدم أحدث طرق التصنيع الحديثة والتي تستخدم الحواسيب للتحكم في عمليات التصنيع. وتبدأ عملية تصنيع البروتين بقيام الشريط الوراثي بإصدار الأمر لأخذ نسخة عن التعليمات التي تحدد ترتيب الأحماض الأمينية لهذا البروتين فيبادر إنزيم خاص بفتح سلسلتي الشريط الرئيسي في مكان الجين المنشود ثم يقوم الشريط المراسل بأخذ نسخة عنها ويغادر نواة الخلية صوب الرايبسوم. وعند وصوله يقوم الرايبوسوم بتمرير الشريط المراسل في تجويف خاص كما تمرر الأشرطة المغناطيسية في المسجلات السمعية والمرئية أمام رؤوس القراءة ويبدأ بقراءة الشيفرات التي يحملها بشكل متسلسل. وتتم عملية تصنيع البروتين من خلال قيام الرايبوسوم بالوقوف على كل شيفرة من الشيفرات التي يحملها الشريط المراسل وذلك لحين وصول الأشرطة الناقلة المكلفة بنقل الأحماض الأمينية الموزعة في سيتوبلازم الخلية إلى موقع الرايبوسوم. والشريط الناقل هو شريط حامض نووي قصير يحمل على أحد جنبيه شيفرة أحد الأحماض الأمينية وعلى الجنب الآخر الحامض الأميني نفسه وبهذا يوجد لكل حامض أميني من الأحماض الأمينية العشرين شريط ناقل خاص به. وعندما يصطف الشريط الناقل بجانب تجويف الرايبوسوم يتم مقارنة الشيفرتين فإن تطابقت يقوم الرايبوسوم بالإمساك بالحامض الأميني وإن لم تتطابق فإنه سيهملها ويقوم بفحص بقية الأشرطة الناقلة التي تحيط به إلى أن يعثر على الحامض الأميني المطلوب. وبعد إمساك الرايبوسوم بالحامض الأميني يقوم بإدخال شيفرة جديدة من الشريط المراسل ويعيد عملية البحث عن الحامض الأميني التالي فإن أمسك به وضعه بجانب الحامض الأميني السابق ويقوم بربطه به. وتتكرر هذه العملية إلى أن ينتهي الرايبوسوم من ربط جميع الأحماض الأمينية حسب الترتيب الموجود على الشريط المراسل. ومن ثم يقوم الرايبسوم بتحرير سلسلة الأحماض الأمينية التي قام بربطها والتي تبدأ بالالتفاف حول نفسها لتنتج البروتين المطلوب. ومما حير العلماء أنه في داخل الخلية الواحدة التي لا يتجاوز قطرها عدة ميكرومترات يتم إنتاج آلاف الأنواع من البروتينات في نفس الوقت وبكميات كبيرة ولكنها محسوبة بشكل بالغ الدقة. وللقارئ أن يتخيل منظر آلاف الأنزيمات وهي تفتح الشريط الرئيسي في مواقع مختلفة عليه ومنظر الأشرطة المراسلة وهي تقوم بنسخ تعليمات التصنيع من هذه المواقع ثم تتجه صوب الرايبسومات لتسلمها هذه التعليمات ومنظر الأشرطة الناقلة وهي تتجمع حول الرايبسوم لتزودها بالأحماض الأمينية اللازمة لها. وعلى الرغم من هذا التشابك المعقد الناتج عن حركة ملايين الجزيئات من الأشرطة المراسلة والناقلة والرايبوسومات ومزودات الطاقة في داخل الخلية التي لا ترى بالعين المجردة إلا أنها تتم بشكل بالغ الانتظام بحيث لا يمكن لأي جزئ أن يخطأ الهدف الذي صنع من أجله فسبحان القائل "قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" طه 50.

أما الآلية الثانية فهي أن السلاسل البروتينية أحادية البعد التي يصنعها الرايبسوم تلتف على نفسها بطريقة فريدة لتنتج جزيئات ثلاثية الأبعاد بأشكال وأحجام وخصائص فيزيائية وكيميائية محددة وذلك لكي تقوم بوظيفة محددة في جسم الكائن الحي. ولا زال علماء الأحياء في حيرة من أمرهم حول الآلية التي يتبعها البروتين للالتفاف على نفسه حيث وجدوا أنه بمجرد أن ينتهي الرايبسوم من تصنيع سلسلة البروتين فإنه يقوم بالالتفاف على نفسه لينتج الشكل المطلوب في زمن لا يتجاوز جزء من ألف جزء من الثانية. وقد قام أحد العلماء بحساب الزمن اللازم لالتفاف سلسلة بروتينية بطول مائة حامض أميني فيما لو تمت بطريقة المحاولة والخطأ فوجده يساوي مائة بليون بليون بليون سنة! أما في داخل الخلية الحية فيوجد سلالسل بروتينية يصل طولها إلى عدة آلاف من الأحماض الأمينية ولكنها تلتف على نفسها في جزء لا يذكر من الثانية. ولا زال علماء الأحياء يجهلون سر طريقة الإلتفاف هذه رغم آلاف الأبحاث العلمية التي أجريت لحل هذه المشكلة ورغم استخدامهم لأضخم الحواسيب العملاقة لمحاكاة هذه العملية ولذلك أطلقوا عليها اسم "مشكلة طي البروتين". إن شكل البروتين الناتج عن التفاف السلسلة البروتينية يتحدد بشكل رئيسي من أعداد الأحماض الأمينية على هذه السلسلة وطريقة ترتيبها ولذلك فإن اختيار طول السلسلة البروتينية وكذلك طريقة ترتيب الأحماض الأمينية عليها لإنتاج بروتين يقوم بوظيفة معينة لا يمكن أن يتم إلا من قبل صانع لا حدود لعلمه وقدرته. فكيف يمكن لصانع محدود العلم كالإنسان أن يحدد تسلسل الأحماض الأمينية التي تنتج بروتينات شفافة للضوء وأخرى حساسة لترددات محددة في الطيف الضوئي لاستخدامها في عيون الكائنات أو إلى غير ذلك من البروتينات التي يصل عدد أنواعها في الكائنات الحية إلى مئات الآلاف! ولقد وجد العلماء أن كثيرا من الأمراض التي تصيب الكائنات الحية مردها إلى فشل بعض البروتينات من الالتفاف على نفسها وذلك بسبب حصول خطأ واحد فقط في أحدى الشيفرات الوراثية التي أنتجتها.

أما الآلية الثالثة فهي قدرة بعض البروتينات للعمل كأنزيمات تعمل كمحفزات للتفاعلات الكيميائية التي تجري في داخل الخلايا الحية وفي هذه السر تكمن أسرار كثيرة لا يمكن لطريقة التصنيع الذاتية أن تنجح بدونها. أما أولها فهي أن التفاعلات الكيميائية تتم بين الجزيئات العضوية المختلفة عند درجات حرارة عادية بوجود هذه الأنزيمات أما في غيابها فلا يمكن لمثل هذه التفاعلات أن تتم إلا عند درجات عالية جداً. وبهذه الخاصية الفريدة للأنزيمات تم تقليل الطاقة اللازمة لإتمام التفاعلات الكيمائية في أجسام الكائنات الحية وبالتالي تقليل كمية الطاقة التي تحتاجها الكائنات الحية لكي تعيش. أما ثانيها فهو إمكانية التحكم بأنواع التفاعلات الكيمائية التي تجري في داخل الخلية الحية حيث تبين للعلماء أن لكل تفاعل كيميائي هنالك إنزيم واحد فقط يمكنه تحفيز مثل هذا التفاعل. وبهذه الخاصية يمكن لآلاف الأنواع من الجزيئات أن تجتمع في نفس الحيز داخل الخلية الحية ولا تتفاعل في ما بينها إلا بوجود الأنزيمات فعندما يصل إنزيم معين لهذا الخليط من الجزيئات فإن التفاعل يتم بين جزيئات معينة وتبقى بقية أنواع الجزيئات على حالها بدون تفاعل. إن إحدى الآليات المقترحة لتنفيذ البرامج المخزنة على الشريط الوراثي هو في قيام أنزيم محدد بفتح الشريط لقراءة الجين الذي يحدد بداية هذا البرنامج ثم يقوم هذا الجين بإعطاء الأمر لتصنيع إنزيم يقوم بفتح الشريط في مكان آخر حسب الخطوات المحددة في البرنامج وهكذا تتوالى عمليات تصنيع البروتينات وتحفيز الجينات بالإنزيمات في داخل الخلايا إلى أن ينتهي تنفيذ كامل البرنامج. وإذا ما علمنا أن الشريط الوراثي للإنسان يحتوي على ما يقرب من مائة ألف جين فإن عملية الوصول للمعلومات المخزنة عليه تحتاج لتحديد مواصفات عشرات الآلاف من الإنزيمات بحيث لا يمكن لأي إنزيم أن يخطئ أبدا في الوصول لمكان الجين الخاص به على الشريط علما بأن طول الجينات الموجودة على الشريط لا يتجاوز خمسين نانومتر.

أما الآلية الرابعة فهي أن مكونات الخلية المختلفة يتم تصنيعها من خلال إنتاج جميع البروتينات اللازمة لبنائها ومن ثم تقوم هذه البروتينات بالتراكب مع بعضها البعض بشكل تلقائي وبتسلسل محدد وذلك بمجرد التقائها في حيز واحد. ولا يمكن لهذه العملية أن تنجح إلا إذا تم تصنيع كل بروتين من البروتينات التي تدخل في تركيب هذا المكون بشكل فريد ومميز بحيث لا يمكنه الارتباط بجسم المكون أثناء عملية تصنيعه إلا في مكان محدد. ولتوضيح ذلك فإن عملية تصنيع المكون تبدأ بارتباط بروتينين لإنتاج شكل محدد لا يسمح إلا لبروتين ثالث محدد الشكل بالارتباط بهما لينتج شكلا جديدا لا يسمح بدوره إلا لبروتين محدد آخر للارتباط به وهكذا تستمر عملية البناء من خلال تسلسل محدد لعملية اتخاذ البروتينات لمواقعها المحددة في جسم المكون. وبعد أن تنتهي عملية تصنيع المكون بالشكل المطلوب لا يسمح لأي بروتين مهما كان نوعه بالارتباط بجسم المكون وإلا لتغير شكله ولفشل في القيام بوظيفته. إن هذه الطريقة في تصنيع مكونات الخلية أشبه ما تكون بالطريقة التي يبني بها الأطفال مكعبات الليغو أو الرسومات المبعثرة على قطع الكرتون أو ما يسميه العلماء طريقة المفتاح والقفل. ولولا أن العلماء يرون بأم أعينهم الخلايا وهي تصنع جميع مكوناتها بكل سهولة ويسر ولا تكاد تخطئ في إنتاج هذه المكونات بأشكالها المطلوبة مهما تكررت عملية التصنيع لظن بعضهم أن عملية تصنيع المكونات هذه هي ضرب من الخيال. إن المبدأ التي تقوم عليه طريقة التصنيع الذاتية لمكونات الخلية هو نفس المبدأ الذي تقوم عليه عملية تصنيع البروتينات من الأحماض الأمينية فبعد أن يتم ربط هذه الأحماض ببعضها البعض على شكل سلسلة تبدأ هذه السلسلة الأحادية البعد بالالتفاف على بعضها البعض من خلال تجاذب هذه الأحماض في المواقع المختلفة على طول السلسلة لتنتج جسما ثلاثي الأبعاد له شكل مميز وفريد للبروتين المطلوب.

أما الآلية الخامسة فهي أن الخلايا الحية تقوم بتوفير الطاقة اللازمة لعملية التصنيع إما بأخذها من الشمس مباشرة أو من مواد عضوية تحتوي على الطاقة التي سبق لبعض أنواع الخلايا أن قامت بأخذها من الشمس. ففي كل خلية من خلايا النباتات والطحالب توجد البلاستيدات الخضراء التي تعتبر أكبر مصنع لإنتاج المواد العضوية على وجه هذه الأرض حيث يقوم هذا المصنع الذي لا تتجاوز أبعاده عدة ميكرومترات بتزويد جميع الكائنات الحية بالمواد العضوية اللازمة لبناء أجسامها والطاقة اللازمة لإجراء عملياتها الحيوية من خلال عملية التركيب الضوئي. إن اختيار الطاقة الشمسية لتكون مصدرا للطاقة التي تحتاجها الكائنات الحية لا يمكن أن يتم إلا من قبل عليم خبير قادر على تصنيع المكونات التي تقوم بتحويل الطاقة الضوئية إلى طاقة كيميائية يتم تخزينها في الروابط الكيميائية بين عناصر المواد العضوية وقادر كذلك على تصنيع المكونات التي تقوم باستغلال هذه الطاقة الكيميائية لإجراء مختلف أنواع التفاعلات الكيميائية والحيوية في الخلايا. إن تركيب البلاستيدات والآليات التي تستخدمها لإتمام عملية التركيب الضوئي من التعقيد البالغ بحيث لا زال العلماء يجهلون كثيرا من أسرارها ويعتبرها العلماء الحد الفاصل بين عالم الموت وعالم الحياة. ويوجد في جميع خلايا الكائنات الحية مكون آخر يسمى الميتوكندريون يقوم بتحرير الطاقة من المواد العضوية بوجود الأوكسجين واستخدامها في العمليات الحيوية التي تجري في الخلية. إن عملية حرق السكر في الميتوكندريون تتم بشكل منظم وبارع حيث يتم تفكيك الروابط بين ذرات الكربون والهيدروجين ومن ثم يتم تحرير الطاقة الموجودة فيها وإيداعها في روابط كيميائية جديدة في جزيء صغير يسمى ثلاثي فوسفات الأدينوسين. وقد وجد العلماء أن الجزيء الواحد من سكر الجلوكوز ينتج عند تحليله ما يقرب من خمس وثلاثين جزيئا من هذا الجزيء وبكفاءة تحويل تصل إلى ما يقرب من أربعين بالمائة وهي كفاءة تحويل عالية إذا ما قارناها مع كفاءات التحويل في المحركات الميكانيكية. إن التعقيد الموجود في تركيب الميتوكندريون لا يقل عن التعقيد الموجود في تركيب البلاستيدة الخضراء وتحتاج عملية حرق السكر إلى عدد كبير من الأنزيمات لا يقل عن تلك التي تحتاجها عملية التركيب الضوئي.

أما الآلية السادسة فتكمن في قدرة الخلية الحية على إنتاج نسخة عن نفسها بنفسها دون تدخل أيّ قوة خارجية وذلك بمجرد صدور الأمر لها ببدء هذه العملية من قبل شريط الحامض النووي. وتعتبر الخلية الحية وحدة البناء الأساسية لأجسام جميع الكائنات الحية وقد أصيب علماء الأحياء بالدهشة من تعقيد تركيبها على الرغم من صغر حجمها حيث لا يمكن رؤية معظم أنواع الخلايا بالعين المجردة. وقد اكتشف العلماء في الخلية الحية من التراكيب الداخلية ما لا يوجد في أعقد الأجهزة والمعدات الحديثة بحيث لا زال العلماء يجهلون كثيرا من أسرار تركيبها وطرق عملها. إن أحد أهم مكونات الخلية هو شريط الحامض النووي الذي يقوم بالتحكم بكامل العمليات الحيوية التي تجري في داخلها ويحتوي كذلك على جميع التعليمات التي يتم على أساسها تصنيع كل جزء من أجزاء الكائن الحي. ولذلك فإن أحد أهم الخطوات التي تتطلبها عملية انقسام الخلية هي الخطوة التي يتم فيها إنتاج نسخة طبق الأصل عن شريط الحامض النووي لكي يودعها لإحدى الخليتين الناتجتين عن الانقسام. وهذا يتطلب أن يعطي هذا الشريط أمر إنتاج نسخة عن نفسه من تلقاء نفسه وفي هذه الخاصية يكمن سر الحياة الأعظم الذي حول تراب الأرض الميت إلى هذا التنوع الهائل في أشكال الحياة.

وتقوم الخلية عند انقسامها بتوزيع محتوياتها الداخلية بعد إنتاج عدد كاف منها إلى مجموعتين ثم تقوم بوضع جدار فاصل بين هاتين المجموعتين لتنتج خليتين كل واحدة منهما نسخة طبق الأصل عن الخلية الأم التي أنتجتهما. وعلى الرغم من أن الخليتين الناتجتين قد تبدوان متماثلتين من حيث الشكل إلا أن البرامج المخزنة على أشرطتهما الوراثية والتي ستقومان بتنفيذها لاحقا ليس من الضروري أن تكون متماثلة وإلا لنتج عن عملية الانقسام المتكررة لهذه الخلايا كتلة من الخلايا المتشابهة وغير المتخصصة.

وعلى الرغم من إكتشاف العلماء لهذه الآليات التي ينفذ بها الشريط الوراثي برامجه عند تصنيعه الكائنات الحية إلا أن عملية تحول خلية واحدة من تلقاء نفسها إلى كائن حي يحتوي جسمه على بلايين الخلايا تبقى معجزة المعجزات التي ستصدع رؤوس العلماء في محاولاتهم لكشف أسرارها. إن تصنيع أجسام الكائنات الحية يحتاج إلى مئات الآلاف من التصاميم والرسومات الهندسية التي تبين الأشكال والأبعاد الثلاثية والتراكيب الداخلية لكل عضو من أعضاء الكائن الحي إلى جانب تحديد مختلف أنواع التفاعلات الكيميائية التي ستجري في داخلها. إن الطريقة التي يخزن بها الشريط الوراثي أشكال وأبعاد مكونات جسم الكائن لا بد وأن تكون نفس الطريقة الرقمية التي يتم بها تخزين رسوم ثلاثية الأبعاد في أجهزة الحاسوب مع فارق كبير جدا وهو أن الشريط الوراثي يحدد موقع كل خلية في داخل هذا الشكل الثلاثي الأبعاد بينما يكتفي الحاسوب بتحديد الشكل الخارجي لهذا الشكل. ويتطلب من برنامج التصنيع المخزن في الخلية الأم وضع كل خلية من الخلايا في المكان المخصص لها في جسم الكائن وهي مهمة في غاية الصعوبة حتى لو تم تصنيع الجسم من نوع واحد فقط من الخلايا. وبما أنه لا يوجد قوة خارجية تقوم بحمل الخلايا ووضعها في الأماكن المخصصة لها في جسم الكائن كما يفعل البشر عندما تصنيع أشيائهم فإن هذه المهمة تقع على عاتق الخلية الأم وما تنتجه من خلايا أثناء عملية الانقسام المتكررة. ويقع على عاتق الخلية الأولى تحديد عدد الانقسامات التي ستلزم لإنتاج جميع الخلايا التي يحتاجها بناء جسم الكائن وبما أنها ستختفي بمجرد انقسامها إلى خليتين جديدتين فإن عدد الانقسامات التي ستجريها كل من هاتين الخليتين يجب أن يكون مسجل في داخلها ومع تكرار عمليات الانقسام يجب أن يوجد مؤشر في داخل كل خلية من الخلايا الناتجة يحدد عدد الانقسامات التي ستجريها في المستقبل. وعلى عاتق الخلية الأولى كذلك قبل أن تنقسم أن تحدد المهام التي ستقوم بها الخليتان الناتجتان عنها وهاتان بدورهما يجب أن تقوما بتحديد مهام الخلايا الأربع التي ستنتج عن انقسامهما وهكذا يتم توزيع المهام على بقية الخلايا التي ستنتج عن الانقسام المتكرر للخلية الأولى. ومن الواضح أنه بعد حدوث عدد معين من الانقسامات تبدأ الخلايا بتنفيذ مهامها المختلفة فخلية واحدة فقط ستتولى تصنيع الهيكل العظمي وثانية للجهاز العضلي وثالثة للجهاز العصبي وكذلك هو الحال مع بقية أجهزة الجسم كالجهاز الدوري والهضمي والجلدي والبصري والسمعي والتناسلي. وبما أن هذه الخلايا تتلقى أوامر انقسامها من شريط الحامض النووي الذي في داخلها فهذا يستلزم أن تقوم كل خلية من هذه الخلايا بتنفيذ جزء محدد من برنامج تصنيع الكائن المخزن في الشريط الوراثي الكلي. إن برنامج التصنيع الكلي مكون من عدد كبير من البرامج الأصغر حجماً يتكفل كل واحد منها بتصنيع جزء معين من جسم الكائن وهذه البرامج الصغيرة بدورها مكونة من عدة برامج أصغر مسؤولة عن تصنيع مكونات هذه الأجزاء. أما المشكلة العويصة في عملية التصنيع هذه فهي في طريقة ترتيب هذه البرامج في داخل البرنامج الرئيسي بحيث يتم تنفيذ هذه البرامج وفقاً للخطة التي سيتم بها تصنيع جسم الكائن وبحيث تضع أجزاء الجسم المختلفة في الأماكن المخصصة لها أولا بأول. ومما يزيد من صعوبة ترتيب وتنفيذ هذه البرامج التداخل الكبير بين الأجهزة المختلفة لجسم الكائن فبعض مكونات الجهاز الدوري والعصبي تمتد إلى داخل مكونات الأجهزة الأخرى والجهاز البصري والسمعي موجودة في داخل تجاويف الهيكل العظمي والجهاز العضلي يرتبط ارتباطا كبيرا بالهيكل العظمي. وهذا يتطلب ممن يقوم بكتابة برامج تصنيع الأجهزة المختلفة أن يراعي هذا التداخل الشديد بين هذه الأجهزة ويضمن توافق أحجامها ووظائفها عند تصنيع جسم الكائن. فعلى سبيل المثال فإن خطأ بسيطا في برنامج التصنيع قد يجعل من حجم العين أو المخ أو الأسنان أكبر من التجويف المخصص لها في داخل الجمجمة. وبما أن كل خلية من خلايا الجسم المراد تصنيعه تقوم بتنفيذ جزء البرنامج الخاص بها حسب موقعها من الجسم وبشكل مستقل عن بقية الخلايا فإن هذا يتطلب أن تكون الأوامر الصادرة عنها في كل لحظة من لحظات تصنيع الكائن على درجة عالية من التنسيق والتزامن ليظهر الكائن الحي بالشكل المطلوب. وبما أنه لا يوجد أيّ نظام تحكم مركزي يعمل على التنسيق بين الخلايا أثناء انقسامها لتصنيع الكائن فإن عملية التنسيق هذه تتم بشكل غير مباشر بين الخلايا من خلال الأوامر التي تصدرها أشرطتها الوراثية بشكل مستقل ولكن بتزامن منقطع النظير.

لقد أنكر القرآن الكريم على الإنسان الذي يرى هذه الطريقة العجيبة في تصنيع الكائنات الحية ابتداء من خلية واحدة تنقسم بلايين المرات إلى أن تنتهي بكائنات حية في أجسامها من تعقيد التركيب ما لا زال البشر يجهلون كثيرا من أسرارها ثم ينسب ذلك للصدفة فقال عز من قائل "قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ" عبس 17-19. وإن كان هناك من عذر لكفر الجاهل بتفصيلات هذه المعجزة في خلق الكائنات، فإن العلماء الذين يعلمون أسرار طريقة الخلق هذه ثم ينسبونها للصدفة هم أشد الناس كفرا لأنهم موقنون في قرارة أنفسهم بأن الصدفة أعجز من أن ترتب أحرف جملة مفيدة فأنى لها أن تكتب بطريقة رقمية الأشرطة الوراثية لملايين الأنواع من الكائنات الحية ولذلك فإنه يصدق قول الله فيهم "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ" النمل 14. ولكي يتأكد الإنسان من وجود معجزة في هذه الطريقة الربانية في الخلق فقد أشار القرآن الكريم إلى تفاصيل هذه الرحلة المعقدة والعجيبة للخلية الحية وهي تتحول إلى إنسان كامل أو إلى غير ذلك من ملايين الأنواع من الكائنات الحية وذلك في قوله تعالى "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" المؤمنون 12-14.

المراجع

1. بداية الخلق في القرآن الكريم، د. منصور العبادي، دار الفلاح للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، طبعة 2006م.

2. طبيعة الحياة، تأليف فرانسيس كريك، ترجمة أحمد مستجير، عالم المعرفة، أيار 1988م، الكويت.

3. هذا هو علم البيولوجيا ، تأليف إرنست ماير، ترجمة عفيفي محمود عفيفي، عالم المعرفة، كانون ثاني 2002م، الكويت.

4. الجينوم (السيرة الذاتية للنوع البشري)، تأليف مات ريدلي، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، عالم المعرفة، تشرين ثاني 2001م، الكويت.

5. مشكلة طي البروتين، فريدرك ريتشارد، مجلة العلوم الأمريكية، كانون ثاني 1991م.

سلاح جديد ضد البدانة

تسرع مادة "سيبوترامين" (Sibutramine) الشعور بالشبع، عن طريق تأثيرها على الدماغ.

أن تأكل قليلاً و تشعر بالشبع: كل الأشخاص الذين يعانون من البدانة ( 7-8 % من سكان فرنسا) يتمنون الوصول إلى هذه المعادلة. هذا الحلم أصبح حقيقةً بفضل "سيبوترامين". إن لهذه المادة الدوائية الجديدة خاصية إنقاص الشهية للطعام، و بالتالي إنقاص الاستهلاك الغذائي. و هي تسوق حالياً في ثلاثين دولة تقريباً. تكلفة العلاج الشهرية هي حوالي 500 فرنك فرنسي.

إن المادة الدوائية الوحيدة التي كان يسمح باستعمالها في فرنسا لمعالجة البدانة بشكل مزمن، هي "أورليستات" (Orlistat)، التي تؤثر على عملية الهضم منقصةً امتصاص المواد الدسمة بنسبة الثلث. تؤثر "سيبوترامين" على مستوى الدماغ، عن طريق زيادة الشعور بالشبع. عندما يشعر المريض بالشبع أسرع، فإنه يأكل أقل و يفقد عدداً أكبر من الكيلوغرامات الزائدة. يقول "أوليفييه زيغلير"، أستاذ التغذية في جامعة نانسي: "تخفض سيبوترامين تناول الأطعمة بنسبة 20-30% ، مما يعني، عملياً، نقص 5-10% من الوزن في السنة الواحدة". و هي نتيجة ثابتة. هذه المادة لا تساعد على خفض الوزن فقط، بل و تساهم في الحفاظ على النتيجة المتوصل إليها. غير أن هذا الدواء، الذي يعطى على شكل جرعة يومية واحدة، ليس أعجوبة. إذ كما يؤكد الأستاذ "زيغلير" :"إن نتائجه مشابهة لكافة الأدوية المعروفة للاستعمال في هذا المجال حتى الآن".


تكون النتائج افضل من الوسطي عند ثلث الحالات، غير أنها تكون أقل من المرجو عند ثلث آخر. الحقيقة أن استعمال هذا الدواء لا يغني عن الحمية الغذائية قليلة الحريرات ، أو الرياضة أو تغيير العادات الصحية السيئة. إنه مخصص للأشخاص البدينين الذين لديهم عوامل خطورة مرافقة (داء السكري، ارتفاع ضغط الدم، اضطراب شحوم الدم...إلخ) الذين يفشلون بدونه. كما أنه ممنوع عن الاستخدام لدى مرضى ارتفاع ضغط الدم أو تضيق الشرايين الإكليلية أو الاضطرابات القلبية أو الحوادث الوعائية. و رغم أن "سيبوترامين" لا يسبب ارتفاع التوتر الشرياني الرئوي، كما هو الحال بالنسبة للأدوية المماثلة المتوفرة حالياً، فهذا لا يعني أنه ليست له أعراض جانبية محتملة، مثل زيادة طفيفة في ضغط الدم و سرعة نبضات القلب.

الجمعة، 22 مايو 2009

حكم التلفظ بالنية في العبادات :

اعلم أنه لا يشرع التلفظ بالنية في العبادات لأنه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا فعله أحد من أصحابه رضي الله عنهم ، وإنما هي بدعة حدثت في الأزمنة المتأخرة عن عصر السلف الصالح الذين زكاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) . ولأن حقيقة النية : القصد مطلقاً ، وهو إرادة الفعل ، ومحل ذلك بالقلب لا اللسان ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) ولم يقل بالألفاظ ، ويؤيد ذلك عدة أمور منها :

1 ـ قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم...) الآية . يعني : إذا أردتم القيام إلى الصلاة .

ولما كان محل الإرادة القلب ـ وهي كما ذكرنا : القصد إلى الفعل ـ أمر بالفعل مباشرة فقال : ( فاغسلوا وجوهكم ) ولم يأمر بشيء من التلفظ بالنية .

2 ـ قوله صلى الله عليه وسلم للسيء في صلاته : ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبّر ) الحديث .

فلم يأمره بالتلفظ بالنية ، مع أنه في مقام تعليم الجاهل ، وأول لفظ أمره به : التكبير ، ولو كان التلفظ بالنية مشروعاً لبيّنه له صلى الله عليه وسلم . ولكن لما كان محل النية القلب ، و يحصل ذلك بالقصد إلى الفعل الذي عبّر عنه بقوله : ( إذا قمت إلى الصلاة ) أمره بعد ذلك بأول واجب لفظي وهو قول : الله أكبر .

ولذلك قال الإمام السيوطي رحمه الله : لا يشترط مع القلب التلفظ ، ثم قال : ولو اختلف اللسان والقلب ، فالعبرة بما في القلب ، فلو نوى بقلبه الظهر وبلسانه العصر صحّ له ما في القلب . [الأشباه والنظائر للسيوطي (47ـ48)] .

ومن هنا : تعلم خطأ بعض من يتشدد في التلفظ بالنية فتجد أحدهم يقول : (نويت أن أصلي صلاة الظهر أربع ركعات لله تعالى فرض الوقت حاضراً مؤتماً).

وهذا من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان ، وفي الحديث : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) . [متفق عليه]

ولمسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) .

الخميس، 21 مايو 2009

الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سالع

قيدار هو الجد الأكبر لقبائل مكة، وهو من أبناء إسماعيل عليه السلام كما تخبرنا المصادر التاريخية، وكما يخبرنا أيضا الكتاب المقدس في سفر التكوين الإصحاح 25 الفقرة 13:

وهذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل وقيدار وأدبائيل ومبسام……).

وقيدار بن إسماعيل ينسب له العرب المستعربة، والتي تسمى أيضا بالعرب العدنانية نسبة إلى عدنان الذي انحدر من صلب قيدار بن إسماعيل عليه السلام.

والديار التي سكنها قيدار هي الديار التي سكنها إسماعيل، وهي الديار التي سكنها النبي – صلى الله عليه وسلم-، وهى مكة المكرمة..

ورد في كتاب قلب جزيرة العرب:(ولى إسماعيل عليه السلام زعامة مكة وولاية البيت طوال حياته، ثم ولى اثنان من أبنائه: نابت ثم قيدار، ويقال العكس).

وورد في كتاب الرحيق المختوم في حديثه عن نسب النبي-صلى الله عليه وسلم- وقبائل مكة إلى قيدار بن إسماعيل: (وقد رزق الله إسماعيل اثني عشر ولدا ذكرا وهم: نابت أو بنايوط وقيدار وأدبائيل ومبشام ومشماع ودوما وميشا وحدد ويتما ويطور ونفيس وقيدمان، وتشعبت من هؤلاء اثنتا عشرة قبيلة، وانتشرت هذه القبائل فى أرجاء الجزيرة بل وإلى خارجها، ثم أدرجت أحوالهم في غياهب الزمان إلا أولاد نابت وقيدار.

وقد ازدهرت حضارة الأنباط –أبناء نابت- في شمال الحجاز وكونوا حكومة قوية ولم يكن يستطيع مناوأتهم أحد حتى جاء الرومان فقضوا عليهم، وأما قيدار بن إسماعيل فلم يزل أبناؤه بمكة يتناسلون هناك حتى كان منه عدنان وولده معد .

وقد تفرقت بطون معد من ولده نزار إلى أربعة قبائل عظيمة: إياد وأنمار وربيعة ومضر، وهذان الأخيران هما اللذين كثرت بطونهما فكان من ربيعة: أسد بن ربيعة وعنزة وعبد القيس وابنا وائل-بكر- وتغلب وحنيفة وغيرها

وتشعبت قبائل مضر إلى شعبتين عظيمتين: قيس بن عيلان بن مضر وبطون إلياس بن مضر. فمن قيس عيلان: بنو سليم وبنو هوازن وبنو غطفان، ومن إلياس بن مضر: تميم بن مرة وهذيل بن مدركة وبنو أسد بن خزيمة وبطون كنانة بن خزيمة، ومن كنانة:قريش، وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.

وانقسمت قريش إلى قبائل شتى من أشهرها بطون قصي بن كلاب وهى عبد الدار بن قصي وأسد بن عبد العزى بن قصي وعبد مناف بن قصي.

وكان من عبد مناف أربع فصائل:عبد شمس ونوفل والمطلب وهاشم وبيت هاشم هو الذي اصطفى الله منه سيدنا محمد بن عبد الله بن هاشم صلى الله عليه وسلم).

هذا هو قيدار بن إسماعيل الذي انحدرت منه القبائل التي سكنت مكة، ولا تزال تسكنها حتى الآن، ولكن ما هي سالع؟

سالع هي جبل سلع بالمدينة المنورة، وهو جبل يقع غرب المسجد النبوي علي بعد 500 متر تقريبا من سوره الغربي، يبلغ عرضه ما بين 300 إلي 800 مترا، وارتفاعه 80 مترا، ولهذا الجبل أهمية تاريخية فلقد وقعت علي سفوحه أو بالقرب منه عدة أحداث هامة أهمها غزوة الخندق التي تجمع فيها المشركون في جهته الغربية وكان يفصل بينه وبينهم الخندق، وكان سفح جبل سلع مقر قيادة المسلمين إذ ضربت خيمة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم-ورابط عدد من الصحابة في مواقع مختلفة منه، عند قاعدة الجبل سكنت منذ العهد النبوي قبائل عدة، وفي العهد العثماني أقيمت علي قمته عدة أبنية عسكرية ما زالت أثارها باقية حتى الآن، وفي عصرنا الحالي أحاط العمران بالجبل من كل ناحية وصار جزءا من حدود المنطقة المركزية للمدينة المنورة.(1)

ولكن ماذا يقول الكتاب المقدس عن الديار التي سكنها قيدار وعن سالع ؟

ورد في سفر أشعياء الإصحاح 42 الفقرة من 1 إلى 17

42: 1 هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم.

42: 2 لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته.

42: 3 قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفيء إلى الأمان يخرج الحق.

42:4 لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته.

42 : 5 هكذا يقول الله الرب خالق السماوات وناشرها باسط الأرض ونتائجها معطي الشعب عليها نسمة والساكنين عليها روحا .

42: 6 أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدا للشعب ونورا للأمم.

42: 7 لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة.

42: 8 أنا الرب هذا اسمي، ومجدي لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات.

42: 9 هوذا الأوليات قد أتت والحديثات أنا مخبر بها قبل أن تنبت أعلمكم بها.

42: 10 غنوا للرب أغنية جديدة تسبيحة من أقصى الأرض أيها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر(جمع جزيرة) وسكانها.

42: 11 لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا.

42: 12 ليعطوا الرب مجدا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر.

42: 13 الرب كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض غيرته يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه.

42: 14 قد صمت منذ الدهر((في النسخة الإنجليزية: أمسكت (سلامي) منذ زمن طويل، ويقول القاموس الإنجليزي للكتاب المقدس أنها مكتوبة في النسخة العبرية (شيلاميم)، ومن المعلوم أن حروف كلمة شيلاميم أو شالوم بالعبرية هي نفس الحروف التي تشتق منها كلمة الإسلام )) سكت تجلدت كالوالدة أصيح انفخ وانخر معا.

42: 15 أخرب الجبال و الآكام و أجفف كل عشبها واجعل الأنهار يبسا وأنشف الآجام.

42: 16 وأسير العمي في طريق لم يعرفوها في مسالك لم يدروها أمشيهم اجعل الظلمة أمامهم نورا والمعوجات مستقيمة هذه الأمور افعلها ولا اتركهم.

42: 17 قد ارتدوا إلى الوراء يخزى خزيا المتكلون على المنحوتات القائلون للمسبوكات انتن آلهتنا.

من هو عبد الله ومختاره الذي يتحدث عنه النص السابق ؟!

النص السابق لا يمكن أن ينطبق إلا على النبي –صلى الله عليه وسلم-، فهو عبد الله ومختاره الذي أخرج الحق للأمم وانتظرت الجزر شريعته، ولم يكل ولم ينكسر حتى وضع الحق في الأرض وأرشد الناس إلى جميع الحق، فهو صاحب الشريعة الكاملة التي أتمها الله في عهده، ولم يقبضه إلا بعد اكتمالها( لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض )، ولذلك يقول الله تعالى في سورة المائدة (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). والنبي-صلى الله عليه وسلم-هو الذي أخرج الحق لكل الأمم فهو صاحب الرسالة العالمية لجميع أهل الأرض، ولذلك يقول الله تعالى للنبي في قرآنه (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)…ويقول أيضا (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)..

وهو الذي عصمه الله من المشركين حتى بلغ رسالته، وأدى أمانته (فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدا للشعب ونورا للأمم).. ولذلك يقول الله في قرآنه مخاطبا نبيه (والله يعصمك من الناس)..

والنبي-صلى الله عليه وسلم- هو الذي أخرج الناس من ظلمة الشرك وعبادة الأصنام والمنحوتات إلي عبادة الله الواحد (أنا الرب هذا اسمي، ومجدي لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات).

والنص السابق لا ينطبق على المسيح عليه السلام الذي لم يدع أنه قد أخرج كل الحق للأمم؛ بل قال قبل رحيله ( إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم لكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق )كما ورد في إنجيل يوحنا..

كما أن المسيح أخبرنا أنه لم يأت إلا لهداية بني إسرائيل كما جاء في إنجيل متى( لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)..

وكلمة (وضعت روحي عليه) تعنى النصرة والتأييد من الله ، وهى عامة لجميع الأنبياء ، ولا يختص بها المسيح من دونهم ، ومثال ذلك ما جاء في الكتاب المقدس (وكان روح الله على عزريا بن عوديد)، وأيضا ما جاء في الكتاب المقدس في سفر العدد(يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء إذا وضع الله روحه عليهم).

ومن المعلوم أيضا أن دعوة المسيح لم تظهر في الديار التي سكنها قيدار وهي مكة !! ولا رفعت بها الصحراء صوتها!!… كم أنها قد ظهرت في بني إسرائيل، وهي أمة كتابية ليست من عبدة الأصنام مثل أهل مكة الذين بعث فيهم النبي-صلى الله عليه وسلم-.. بل إن المسيح قد بعث في بني إسرائيل في وقت كانوا قد تخلصوا فيه من الوثنية وعبادة الأصنام تماما..

ولو افترضنا أن النص يتحدث عن المسيح عليه السلام؛ فهو بذلك يثبت أن المسيح عليه السلام هو عبد لله، وليس ابنا له أو شريكا معه في الألوهية(هو ذا عبدي الذي أعضده).

والمفاجأة التي وجدناها في النص عند قراءته في النسخة الإنجليزية ( وما أكثر المفاجآت عند مقارنة النسخة العربية بالنسخة الإنجليزية ! ) هو أن كلمة ( الأمم ) الواردة في النص ليست ترجمة لكلمة(nations) كما هو متوقع ، ولكن الكلمة الواردة في النسخة الإنجليزية هي(gentiles) ، وتترجم بالعربية إلى الأمميين .. ويقول قاموس الكتاب المقدس عن هذا اللفظ أن اليهود يستخدمونه على الأمم الأخرى من غيرهم، فهم يعتبرون أنفسهم حملة الرسالات وشعب الله المختار، ويقول أيضا أن اليهود يستخدمونه كمصطلح لاحتقار الأمم الأخرى من غير اليهود باعتبارها أمم وثنية.. وبالطبع يرفض النصارى هذا التقسيم باعتبارهم أيضا من أهل الكتاب، وهذا هو الحق عند المسلمين وهو أن هذا اللفظ كان يستخدم لوصف الأمم من غير أهل الكتاب قبل ظهور الإسلام كما يخبرنا القرآن الكريم:

(وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا). آل عمران 20..(ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) آل عمران: 75..وهم الذين بعث فيهم النبي –صلى الله عليه وسلم- ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) الجمعة 2..(الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراةوالإنجيل)...الأعراف 157.. (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) الأعراف 158..والصفات السابقة هي تقريبا نفس الصفات التي وردت في النص الذي رواه الإمام البخاري في صحيحة عن عطاء بن ياسر أنه قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قلت: أخبرني عن صفة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في التوراة، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا ).

ما هي التسبيحة الجديدة التي من أقصى الأرض ؟

إنها إعلان برسالة جديدة، وكلمة من أقصى الأرض تشير إلى المشرق الأقصى، إذ أن أقصى القدس جزيرة العرب، وأقصى جزيرة العرب القدس، لذلك يقول الله تعالى في كتابه الكريم (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا).

ما هي البرية ومدنها، وما هي الديار التي سكنها قيدار ومن هم سكان سالع؟


البرية هي الصحراء، والديار التي سكنها قيدار هي مكة، وسكان سالع هم سكان جبل سلع بالمدينة المنورة(لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال).

من هم العمي الذين ساروا في طريق لم يعرفوها، وكان الله معهم ولم يتركهم ؟

إنهم المؤمنون بالدين الجديد، ومتبعي الرسالة، الذين أبصروا في نور الإسلام، بعد أن كانوا عميا في الجاهلية التي زاغوا فيها عن التوحيد، وارتدوا فيها إلى الوراء، وعبدوا المنحوتات، وقالوا للمسبوكات أنتن آلهتنا..

وكيف ترفع البرية صوتها، وتخبر بالتسبيح في الجزائر ؟

إنما يكون ذلك برفع الآذان، والنداء (الله اكبر الله اكبر) يسمعها سكان الصحراء وما حولها…

ما المقصود بقوله الرب كالجبار يخرج كرجل حروب ؟

إنها عشرات الحروب التي تم خوضها لإخراج الناس من الكفر إلى الإسلام، وليس أدل على ذلك من أن صاحب الرسالة قد وصل عدد الغزوات التي خرج إليها بنفسه-صلى الله عليه وسلم- كان سبعا وعشرين غزوة في سبع سنوات فقط من أجل نشر التوحيد وإعلاء الحق في الأرض.

وماذا يكون شيلاميم الذي أمسكه الله منذ زمن طويل ؟

إنه دين التوحيد –الإسلام- الذي بعث الله به جميع الأنبياء إلى البشر، فزاغوا عنه، وأشركوا مع الله آلهة أخرى؛ فكان لابد من بعثه ونشره مرة أخرى بعد ضلال الناس عنه، وانقطاعه من على الأرض زمنا طويلا !!.. وحمل الكلمة على ( الإسلام ) هو الأظهر للنص، والأوضح للمعنى، ولا يستقيم السياق إلا به؛ فالله يقول: أمسكت الإسلام منذ زمن طويل وغاب التوحيد عن الأرض، لذلك سأخوض الحروب وأخرب الجبال والآكام من أجل إظهاره مرة أخرى، وأما حملها على (السلام) فإنه يكون مناقضا للمعنى، ومخالفا للنص؛ فكيف يقول الله إذن أمسكت السلام منذ زمن طويل لذلك سأخوض الحروب وأخرب الجبال والآكام ؟!!

من كانت عنده إجابة لهذه الأسئلة غير تلك الإجابات فليأت بها؛ مثل أن يكون هناك نبي قد أخرج الحق للأمم وانتظرت الجزر شريعته وحفظه الله وعصمه من الناس حتى وضع الحق في الأرض وقضى على عبادة الأصنام والمنحوتات وجعله الله نورا للأمميين وخرجت دعوته من الصحراء، في الديار التي سكنها قيدار وهي مكة، ورفعت بها الصحراء صوتها، وهتف بها من الجبال سكان سالع بالمدينة، بعد أن عبدوا الأصنام والمنحوتات، واشتهر بكثرة حروبه وغزواته – غير محمد صلى الله عليه وسلم !!!!!!!!!! (2)

الأربعاء، 20 مايو 2009

الإعجاز العلمي في المضمضة والاستنشاق والاستنثار

يوما بعد يوم نكتشف سراً كان خفياً، وإعجازاً علمياً جديداً، ففي كل جزء من أجزاء تعاليم ديننا الحنيف نجد أن الأسرار المدخرة فيها أضعاف ما كنا نتوقع، وفي هذا مصداقا لقول الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53]، وفي هذا البحث إن شاء الله تعالى سنتناول جزءًا من أجزاء الوضوء وليس الوضوء كاملاً، وهما سنتان من سنن الوضوء على الراجح من أقوال العلماء، وهي سنة المضمضة والاستنشاق، حيث يكمن فيهما سرٌ ما كان لرجل أمي عاش قبل أربعة عشر قرناً أن يعرف فائدتهما لولا ما أوحاه الله إليه من عظيم حكمته، وأسرار ملكوته.

وستكون محاور هذا البحث على النحو الآتي:

- النصوص الواردة في الموضوع.

- المضمضة والاستنشاق والاستنثار في اللغة.

- المضمضة والاستنشاق والاستنثار في المصطلح الشرعي.

- آثار المضمضة والاستنشاق والاستنثار من منظور علمي.

- وجه الإعجاز .

الأحاديث الواردة في الموضوع:

ورد في القرآن الأمر بالوضوء إجمالاً كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6] فلم يرد في الآية الأمر بالمضمضة والاستنشاق؛ لأن القرآن مجمل وجاء في السنة ما يفصله، ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44].

وقد حفلت السنة النبوية المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام بالكثير من الأحاديث ما يوضح المضمضة والاستنشاق، وجاء ذلك من خلال بيان وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو من خلال الثواب المترتب من جرائهما، أو من فعله صلى الله عليه وآله وسلم في أحايين كثيرة لاسيما في الوضوء أو بعد الطعام أو شرب اللبن، وفيما يلي طائفة من الأحاديث الشريفة:

- عن ابن عباس أنه توضأ فغسل وجهه ثم أخذ غرفة من ماء فمضمض بها واستنشق ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بهما وجهه ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى ثم مسح رأسه ثم أخذ غرفة من ماء فرش بها على رجله اليمنى حتى غسلها ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله يعني اليسرى ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ(1).

- وعن سويد بن النعمان قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فلما كنا بالصهباء دعا بطعام فما أتي إلا بسويق فأكلنا, فقام إلى الصلاة فتمضمض ومضمضنا(2).

- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبنا فمضمض وقال: "إن له دسماً"(3).

- وعن عبد الله الصنايجي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه"(4).

- وعن حمران مولى عثمان أنه رأى عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاث مرات ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرات ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ نحو وضوئي هذا, ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه"(5).

- عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استجمر أحدكم فليستجمر وترا وإذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر"(6).

- المضمضة والاستنشاق والاستنثار في اللغة

أصل المضمضة في اللغة التحريك، ومنه مضمض النعاس في عينيه إذا تحركتا بالنعاس، ثم اشتهر استعماله في وضع الماء في الفم وتحريكه(7).

أما الاستنشاق فقد قال ابن سيده: استنشق الماء في أنفه صبه في أنفه، وقال في الغريين: يستنشق أي يبلغ الماء خياشيمه، والمتوضىء يستنشق إذا جذب الماء بريح أنفه ثم يستنثره، وفي العباب: استنشقت الماء وغيره إذا أدخلته في الأنف، واستنشقت الريح إذا شممتها، والتركيب يدل على نشوب شيء في شيء، والمنشق الأنف، ونشقت منه ريحا طيبة – بالكسر- أي شممت، وهذه ريح مكروهة النشق أي الشم(8).

وأما الاستنثار فهو مأخوذ من النثرة وهو طرف الأنف(9)، قال ابن سيده يقال: استنثر إذا استنشق الماء في أنفه وصبه منه، وفي جامع القزاز: نثرت الشيء أنثره وأنثره نثرا إذا بددته فأنت ناثر، والشيء منثور(10).

- المضمضة والاستنشاق والاستنثار في المصطلح الشرعي

وأما معناه من جهة الشرع فإن المضمضة هي أن يضع الماء في الفم ثم يديره ثم يمجه(11)، أما إدخال الإصبع ودلك الأسنان بها فليس من المضمضة في شيء فمن شاء فعل ومن شاء لم يفعل(12).

وحسب المتمضمض أخذ الماء من اليد بفيه وتحريكه متمضمضا به وطرحه عنه، فإن فعل ذلك ثلاثا فقد بلغ غاية الكمال(13).

وهي سنة في الوضوء والغسل عند الشافعية والمالكية ، ويرى الحنابلة وجوب المضمضة في الوضوء، أما الحنفية فيرون وجوبها في الغسل فقط، وقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أن يتمضمض بعد الطعام وخاصة إذا كان دسماً- كما مر في الأحاديث - ويتم بالمضمضة نظافة الفم وإزالة بقايا الطعام منه، وأما الغرغرة وهي المبالغة بالمضمضة (وهي مندوبة أيضاً) فتنظف الحلق والبلعوم(14).

أما الاستنشاق فلا يكاد يختلف كثيراً عن معناه اللغوي لأنه إدخال الماء في الأنف، وهو سنة مؤكدة في الوضوء والغسل عند جمهور الفقهاء عدا الحنابلة الذين قالوا بوجوبه فيهما(15).

وأما الاستنثار فهو دفع الماء من الأنف أو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، والاستنشاق أخذه بريح الأنف وهما كلمتان مرويتان في الآثار المرفوعة وغيرها متداخلتان في المعنى وأهل العلم يعبرون بالواحدة عن الأخرى(16)، وقد اتفقت الروايات على تقديم المضمضة والاستنشاق والاستنثار على غسل الوجه في الوضوء، وقد ذكروا أن حكمة ذلك اعتبار أوصاف الماء لأن اللون يدرك بالبصر والطعم يدرك بالفم والريح يدرك بالأنف فقدمت المضمضة والاستنشاق وهما مسنونان قبل الوجه وهو مفروض احتياطا للعبادة(17).

- آثار المضمضة والاستنشاق والاستنثار من منظور علمي:

أثبت العلم الحديث بعد الفحص الميكروسكوبي للمزرعة الميكروبية التي أجريت للمنتظمين في الوضوء ولغير المنتظمين: أن الذين يتوضئون باستمرار قد ظهر الأنف عند غالبيتهم نظيفا طاهرا خاليا من الميكروبات، ولذلك جاءت المزارع الميكروبية التي أجريت لهم خالية تماما من أي نوع من الميكروبات، في حين أعطت أنوف من لا يتوضئون مزارع ميكروبية ذات أنواع متعددة وبكميات كبيرة من الميكروبات الكروية العنقودية الشديدة العدوى والكروية السبحية السريعة الانتشار والميكروبات العضوية التي تسبب العديد من الأمراض، وقد ثبت أن التسمم الذاتي يحدث من جراء نمو الميكروبات الضارة في تجويفي الأنف، ومنهما إلى داخل المعدة والأمعاء ولإحداث الالتهابات والأمراض المتعددة ولاسيما عندما تدخل الدورة الدموية(18).

إن تراكم البقايا الطعامية في الفم يجعلها عرضة للتخمر وتصبح بؤرة مناسبة لتكاثر الجراثيم مما قد يسبب التهابات في اللثة والقلاع ونخر الأسنان وغيرها من التهابات جوف الفم، ومن ثم إلى انتقالها إلى الجهاز الهضمي وما ينتج عنه من اضطرابات هضمية وتعفنات يصدر عنها رائحة الفم الكريهة، ويعمل الاستنشاق والاستنثار كلاهما معاً على التخلص مما تراكم في الأنف من مواد مخاطية، وما التصق بها من غبار وجراثيم مما يؤدي إلى تجديد طبقته المخاطية وتنشيطها لتقوم بوظيفتها الحيوية على أتم وجه(19) .

فقد ثبت أن المضمضة تحفظ الفم والبلعوم من الالتهابات ومن تقيح اللثة، وتقي الأسنان من النخر وذلك بإزالة الفضلات الطعامية التي قد تبقى فيها، فقد ثبت علميا أن 90% من الذين يفقدون أسنانهم لو اهتموا بنظافة الفم لما فقدوا أسنانهم قبل الأوان، وأن المادة الصديدية والعفونة مع اللعاب والطعام تمتصها المعدة وتسري إلى الدم، ومنه إلى جميع الأعضاء وتسبب أمراضا كثيرة، وأن المضمضة تنمي بعض العضلات في الوجه وتجعله مستديرا، وهذا التمرين لم يذكره من أساتذة الرياضة إلا القليل لانصرافهم إلى العضلات الكبيرة في الجسم(20).

كذلك فإن الإفرازات المتراكمة هي دعوة للبكتريا كي تتكاثر وتنمو، لهذا فإن الوضوء بأركانه قد سبق علم البكتريولوجيا الحديثة والعلماء الذين استعانوا بالمجهر على اكتشاف البكتريا والفطريات التي تهاجم الجلد الذي لا يعتني صاحبه بنظافته التي تتمثل في الوضوء.

قال الدكتور أحمد شوقي إبراهيم عضو الجمعية الطبية الملكية بلندن واستشاري الأمراض الباطنية والقلب: توصل العلماء إلى أن سقوط أشعة الضوء على الماء أثناء الوضوء يؤدي إلى انطلاق أيونات سالبة ويقلل الايونات الموجبة مما يؤدي إلى استرخاء الأعصاب والعضلات ويتخلص الجسم من ارتفاع ضغط الدم والآلام العضلية وحالات القلق والأرق، ويؤكد ذلك أحد العلماء الأمريكيين في قوله : إن للماء قوة سحرية بل إن رذاذ الماء على الوجه واليدين - يقصد الوضوء - هو أفضل وسيلة للاسترخاء وإزالة التوتر(21).

وجه الإعجاز

ما تقدم هو نتائج بحوث متواصلة تم فيها استخدام أحدث وسائل البحث من أجهزة تعقيم ووسائل تغذية للبكتريا والميكروبات وهو ما يسمى بالإستنبات ليتم من خلالها دراسة أعداد البكتريا المتكونة في حيز صغير، وكذلك أجهزة الميكروسكوب المجهرية وغيرها من وسائل مخبرية حديثة لمعرفة حقائق تلك الكائنات الدقيقة التي ما كان لأحد قبل ألف وأربعمائة عام أن يتخيل بأن هناك شيء اسمه كائنات دقيقة فضلا عن تصور إمكانية رؤيتها، بل فضلا عن إمكانية دراسة كيفية معالجتها والتخلص منها.

وإذا ما علمنا أن أكثر الأمراض انتشاراً بين الناس كالزكام والأنفلونزا والتهاب القصبات إنما تنتقل إلى الإنسان عن طريق الرذاذ الذي يخرج من المريض بواسطة الهواء الذي يمر عبر الأنف أدركنا أهمية الدعوة النبوية للالتزام بعمل الاستنشاق والاستنثار مع كل وضوء والذي يكرره المسلم مرات ومرات في اليوم لأداء صلواته(22).

إن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أمور بخصوص الوضوء عموما والمضمضة والاستنشاق والاستنثار خصوصا سواءً من خلال أقواله وتطبيقه لها في وضوءه أو بعد أكله أو شربه أو قيامة من نومه أو بالحض على فعلها، وحرصه على أن يتأسى به أصحابه من بعده، إن كل ذلك ليؤكد لنا أن تلك السنن التي حافظ عليها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وأمرنا بفعلها إنما هي من أمر خالق عليم بأحوال خلقه وما ينفعهم في دينهم ودنياهم رحيم بهم ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك : 14]، وأن ما أخبرنا به صلى الله عليه وآله وسلم هو أمر حق من الحق على لسان صادق مصدوق لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، اختاره الله العظيم ليكون رسولا مبشرا ونذيرا ومعلما ورفيقا بالناس كافة، كافرهم ومؤمنهم قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [سبأ : 28]، فهل آن الآوان لأولي الألباب أن يقولوا سمعنا وأطعنا؟